الشيخ محمد عياد الطنطاوي (1810-1861)

Conference-2

  كما أن هناك عوامل اقتصادية دفعت روسيا للتعامل مع مصر محمد علي باشا وخاصة لحاجة روسيا إلى القطن المصري ذي الصفات العالية. علماً أن القطن الأمريكي المعروف برخصه حينها لم يستطع أن ينافس القطن المصري لجودته المتميزة. وجاء التأكيد على شراء القطن المصلري في قرار لجنة حكومية درست هذا الموضوع بما فيه عدم جدوى استخدام الكتان بدلاً من القطن، لصعوبة استخدام الكتان الروسي في المصانع ولكونه يجب أن يعالج يدوياً مما يسبب غلاء كلفته و سعر بيعه.

  ومع زيادة تدفق البريد الدبلوماسي والقنصلي إلى الدائرة الآسيوية بين القسطنطينية والقاهرة وسان بطرسبورغ ارتفع حجم المواد المطلوب ترجمتها وكذلك الدقة العالية التي يشترط فيها. وهنا فالشيخ الطنطاوي كان مسؤولاً عن دقة وصحة تلك الترجمات بأن يضع توقيعه في أسفل كل ترجمة، ويشاركه في المسؤولية مدير الدائرة الآسيوية.

  وبناء على ما ذكر فإن الدائرة الآسيوية كانت محظوظة بوجود موظف رفيع المستوى وعالي المؤهلات فيها كالشيخ الطنطاوي. فهو لم يكن فقط متمكناً في اللغة العربية وهي لغته الأم – وهذا بحد ذاته في غاية الأهمية، بل كان يعرف جيداً كل الجوانب الحساسة التي تميز المراسلات مع الشرقيين وخاصة مع الجهات العثمانية. فصياغته كانت تضفي صبغة مقبولة على المكاتبات باللغة العربية، سواء منها السياسية أم التجارية أم المالية. وكان لدى الشيخ الطنطاوي مساعداً وهو تلميذه نافروتسكي، لكنه كان يحمل على أكتافه مسؤولية الترجمة والصياغة النهائية كما أسلفنا.

  وتقديراً لجهوده الكبيرة وإخلاصه في عمله ”الذي لايقبل أية أخطاء أو هفوات“ قدم الشيخ الطنطاوي لنيل وسام حكومي. وبناء على ترشيح وزارة الخارجية صدر مرسوم امبراطوري بمنح مستشار الدولة الشيخ الطنطاوي وسام القديسة آنا من الدرجة الثالثة مع السيوف والأقواس. وكلفت أكاديمية الفنون الجميلة بتلك المناسبة بتجسيد صورة شخصية للشيخ نفذها الرسام مارتينوف.
وبهذه المناسبة كتب الشيخ أبياتاً من الشعر قال فيها:

Поистине я видел чудо в Петербурге: там шейх из мусульман прижимает к груди своей Анну.

  ومن متابعة جدول أعماله اليومي يندهش المرأ كيف استطاع الشيخ أن يوفق بين واجباته المختلفة من عمله في الدائرة الأسيوية في الترجمة والتدقيق والمراسلات وكذلك عمله في البلاط القيصري إلى قراءة المحاضرات في الجامعة والالتقاء بطلبته لمناقشة مشاريعهم العلمية وأخيراً إلى تأليف الكتب والمراجع ونظم الشعر. كل ذلك لم يمر مرور الكرام بل ترك بصمة واضحة على صحة الشيخ الذي كان أصلاً يعاني من بعض الأمراض منذ ولادته كما أشارت التقارير الطبية التي كتبها الأطباء الروس. واتضح من تلك التقارير أيضاً بأن الشيخ الطنطاوي يعاني من شلل في الأطراف السفلية منذ سبتمبر – ايلول 1955.

  وفي عام 1857 طلب إجازة للذهاب إلى الاستجمام والعلاج في المياه الدافئة في بوهيميا لمدة 28 يوماً وهي إجازته المستحقة سنوياً. لكن تلك المعالجة لم تفيده إلى مؤقتاً، فقد اثقل كاهله وحرق أعصابه العمل الكبير والمتواصل في الدائرة الآسيوية. ومنذ عام 1855 لم يعد يعمل فيها واقتصر على التدريس الجامعي، علماً أنه يستحق التقاعد من الخدمة الحكومية بعد خمس سنوات.وتقديراً لجهوده المثمرة ودوره الفاعل في الخدمة في وزارة الخارجية لم تستعجل الوزارة بالبحث عن بديل له لكي لا يخسر مرتبات التقاعد والامتيازات التي يتسحقها نتيجة خدمته حوالي عشرين سنة في مؤسسات الدولة. وفقط في عام 1860 وبعد تفاقم مرض الشيخ الطنطاوي أعلن عن حاجة الوزارة لبديل عنه. وفي نفس العام احتل مكانه الأستاذ سليم نوفل (وهو من سورية) ليصبح أستاذ اللغة العربية والفقه الإسلامي في القسم التعليمي في الدائرة الآسيوية في وزارة الخارجية الروسية.

  لقد تناقل الناس الحكايات عن الشيخ المسلم العربي الذي عمل في القرن التاسع عشر في تعليم اللغة العربية للدبلوماسيين الروس. ومنها يحكى أن الشيخ قبل سفره إلى روسيا خطب فتاة مصرية وأرسلها إلى باريس للدراسة وبعد ذلك تزوج منها. وفي هذا الإطار نشير إلى أن الطنطاوي قدم إلى روسيا وهو في مقتبل العمر في الثلاثين وكان متزوجاً وتدعى زوجته أم حسن ورزق بولد سماه أحمد . ويقال أن ولده أحمد استمر في العيش في روسيا ولم يغادرها. كما أن حفيدة الشيخ يلينا حصلت على لقب النبيلة تقديراً لجهود جدها.

  ومن أهم أعماله كتاب يحمل اسم : ”هدية لذوي الألباب مع أخبار من روسيا“ ويقال أنه مكرس للسلطان عبد المجيد، لكنه عرض فيه تفاصيل رحلته من القاهرة إلى بطرسبورغ وعن انطباعاته عن روسيا والروس. وقد كتبه بلغة عربية فصحى ولم يخلى من الفكاهات والطرائف. ويحسب له أنه أول من ألف كتاباً في قواعد اللغة العربية للروس وباللغة الروسية.

  وفي بطرسبورغ التقى الشيخ بكبار المثقفين التتار الذي كانوا يقيمون في بطرسبورغ أو يأتوا لزيارتها. وتكريماً للطنطاوي صدر في قازان كتابه باللغة التترية بعنوان: ”اثنتان وخمسون جوهرة“.
  كما يذكر عنه المختصون في جامعة سان بطرسبورغ في كلية اللغات الشرقية بان الطنطاوي – رحمه الله – كان عالماً واسع العلم والإطلاع ويتقن عدة لغات : الروسية والفرنسية والألمانية والفارسية والتركية. ومن بين طلابه كان مستشرقون أوروبيون معروفون مثل فريسنيل وبيرون ووايل. كما درس على يديه المستعرب الفنلندي المشهور والرحالة إلى الجزيرة العربية غيورغ أوغست والين (ت 1852). وكان المستعرب ي. غوتفالد (ت 1897) خريج جامعة بريسلاف.

  و في المقبرة التترية في سان بطرسبورغ يمكن قراءة العبارة التالية، باللغتين العربية والروسية، على ضريحه: “البروفيسور ذو كرسي في جامعة سان بطرسبورغ ومستشار الدولة وقد توفي رحمه الله في 27 أكتوبر – تشرين الأول 1861 وهو يناهز الخمسين من عمره”. واليوم يدخل ضريح الشيخ الجليل والعلامة الطنطاوي في عداد الآثار التاريخية والثقافية في روسيا والتي تعتبر مصانة من قبل الدولة.

من هو هذا الشيخ ” محمد عيَّاد الطنطاوى “

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*