كراتشكوفسكي والشرق الإسلامي

إذا كان بوشكين شاعر روسيا العظيم، فإن كراتشكوفسكي (1833-1959) يعد بحق، شيخ المستعربين الروس (1833 ـ 1959)، يعد بحق شيخ المستعربين الروس أغناطيوس كراتشكوفسكي (1833ـ1959)، ولد في (فيلينوس) عاصمة (ليتوانيا)، وعاش في طشقند مع أبيه حتى عام (1888)، وتعلم فيها، ثم أنهى تعليمه الجامعي في جامعة بطرسبورغ عام (1905)،  في قسم اللغة العربية في كلية الدراسات الشرقية، وكانت رسالته للماجستير عام (1906)، عن الشاعر (الوأواء الدمشقي)، وخلال تحضيره لرسالة للماجستير في شهر تموز من عام (1908)، وصل إلى بيروت في رحلة إلى الشرق كان قد اقترح عليه القيام بها أستاذه المستعرب روزن (1849-1908) وفي الشرق العربي التقى كراتشكوفسكي بالعديد من العلماء والأدباء والمفكرين العرب، والمستعربين من أوروبا الغربية. ففي جامعة القديس يوسف في بيروت، التقى بالمؤرخ البلجيكي لامنس، والفرنسي رونزفال والإيطالي نللينو، ومن العلماء العرب، التقى بالأب لويس شيخو، وجورجي زيدان، ومحمد كرد علي، وأمين الريحاني، وإسعاف النشاشيبي وغيرهم، واستمرت صلاته مع بعضهم بغرض التعاون العلمي. عمل كراتشكوفسكي  أميناً لمكتبة اللغات الشرقية في جامعة بطرسبورغ، وأستاذاً اللغة العربية في نفس الجامعة وفي عام 1921 انتخب عضواً في أكاديمية العلوم السوفيتية وانتخبه المجتمع العلمي بدمشق عام (1923) عضواً فيه. كما كان عضواً في العديد من الأكاديميات والجمعيات العلمية.

لقد وقف كراتشكوفسكي معظم آثاره العلمية إن لم تقل كلها للآداب العربية وخدمتها وقد اهتم كراتشكوفسكي بالدرجة الأولى بالمخطوطات العربية والكشف عنها وتحقيقها فكان له الفضل في اكتشاف مخطوط (المنازل والديار) للأمير السوري أسامة بن منقذ  وكذلك مخطوط (رسالة الملائكة) لأبي العلاء المعري وقام بنشر كتاب (البديع)، لابن المعتز.

وتجلى موقف كراتشكوفسكي من الحضارة العربية الإسلامية في كل ماكتب، وكتابه (مع المخطوطات العربية) يعتبر سيرة ذاتية له، إلا أننا نستطيع أن نعتبره الأثر الفني الذي قدم فيه بتنوع وغزارة مواقفه المختلفة تجاه العديد من القضايا المتعلقة بالشرق العربي الإسلامي، وأنه من خلال هذا الكتاب قدم موقفاً شاملاً من الشخصية العربية الإسلامية ومن الحضارة والتراث العربي الإسلامي.

إن كراتشكوفسكي من خلال المخطوطات لا يستعيد الماضي فقط، ولا يتعامل معه كحقبه ميته منقطعة عن الحاضر، وإنما يجعل الحياة تنبعث من ثنايا المخطوطات، كما تنبعث من شخصياتها، ضمن ظروفها التاريخية وفي تعامله مع هذه المخطوطات، ينبثق إحساس العالِم العميق بالمسؤولية العلمية التاريخية التي تحتم عليه الموضوعية في التعامل مع التراث الإنساني بغض النظر عن جنس ودين مبدعي هذا التراث. يقول: (فما إن تتذكر هذه المخطوطات أو تهم بالحديث عنها، حتى تهب على الفور سلسلة من الأشخاص من القرون البعيدة الماضية، ومن الأعوام القريبة من حياتك الخاصة)().

ويقول (المخطوطات تهمس وأنا أدقق النظر فيها باهتمام)().

إن كراتشكوفسكي يقوم بعملية إحياء واستحضار للماضي، وربط بين الحاضر والماضي ولكنه ليس الإحياء بغرض استمرارية هذا الماضي في الزمن الحالي، وإنما إحياء غايته وضع كل حادثة في ظروفها التاريخية. إن العالِم يربط حياته بعمله العلمي ويجعله المتحكم الوحيد في حياته، ولكن المخطوطات تكون أحياناً عنيدة وتجد نفسك عاجزاً عندما تسألك بقوة وتحكم (ومن ذا الذي سيتحدث بعدك عن هذا؟ أترى أعطيناك الحق في أن تطوي هذا بانطوائك، إنها أوامر العلم الخالد على مدى القرون أوامر جدية ولسوف تنحني لها إرادتك في آخر الأمر)().

إن المستعرب هنا لا يستطيع تجنب مسؤولية علمية ملقاة على عاتقه في الكشف عن التراث الحضاري الإنساني، أياً كان هذا التراث شرقياً، أو غربياً، إسلامياً أو مسيحياً، إن منطلق كراتشكوفسكي في التعامل مع الدراسات العربية الإسلامية هو منطلق علمي، ولا أوامر توجهه أو تتحكم به إلا أوامر العلم الخالد وهنا ينفي كراتشكوفسكي إمكانية ربط هذه الدراسات وهذا الاستعراب بأوامر من أي نوع، سياسية أو دينية إنه استعراب علمي، ذو بعد إنساني، ولعل هذه ميزة من ميزات الاستعراب الروسي، أنه غير مسخر إلى حد كبير لأهداف سياسية أو دينية.()

يقول كراتشكوفسكي (وهنا تسمع في هدوء حفيف أوراق الكتب والمخطوطات على المناضد وهنا أيضاً رويداً رويداً، وخطوة خطوة، وسطراً سطراً، يخلق العمل العلمي، الذي تخرج نتائجه من بين هذه الجدران العالية إلى تلك الشوارع المضطربة خارج  جدران هذه المكتبة لتنشرها صفحات الجرائد والمجلات في كل البقاع، ولتستقر هذه النتائج أيضاً في بطون الكتب على رفوف هذه المكتبة العامة)()، إن المستعرب كراتشكوفسكي يدرك أهمية دوره في تكوين الوعي العام الروسي عن الشعوب الأخرى، وعن الشرق العربي الإسلامي، فنتائج أبحاث المستعربين لن تأخذ طابعها الأكاديمي فقط، وإنما سيكون لها دوراً تاريخياً فعالاً في تكوين الفكرة عن الآخر والتعامل معه، لأن نتائج بحوث المستعربين سوف تخرج إلى الشارع الروسي وتكون في متناول جميع القراء من خلال الصحف والمجلات. وهنا يبرز الدور الإنساني للبحث الاستعرابي وضرورة موضوعيته في تقديم الآخر لأبناء بلده وللإنسانية، وبالتالي سيكون للاستعراب دوراً مهماً في التعامل الإنساني بين الشعوب، ومن جهة ثانية فإن هذه النتائج للبحوث الاستعرابية ليست آنية التأثير، وإنما سوف تورث للأجيال وسوف تكون جزءاً من الأدب الفكري الإنساني يتداولونها جيلاً بعد جيل. يتم تداولها، إن هذه الأبحاث سوف تستقر في بطون الكتب، على رفوف المكتبات، وسوف تكون من العوامل المؤسسة لثقافة المستعرب أو الباحث أو القارئ العادي القادم. فالمستعرب إما أن يُوَرُث الصورة السلبية المشوهة، وإما أن يقدم الصورة الحقيقية من خلال موضوعية أبحاثه، وبالتالي سوف تمنح هذه الأبحاث العلمية علاقات الشعوب طابعها الإنساني الحقيقي البعيد عن التشويه والتزييف المتعمد، بهدف إظهار التفوق لشعب على آخر وبالتالي تبرير السيطرة عليه كما فعل الاستشراق الغربي إلى حد كبير.

لقد عقد كراتشكوفسكي صداقات أبدية مع شخصيات مخطوطاته، مع العلماء والأدباء العرب الذين أبدعوا تلك الآثار الفكرية الحضارية (أولئك الأصدقاء الذين لا يستطيع أحد أن ينتزعهم منك، حتى الموت نفسه لا يملك سلطاناً عليهم، إن  فصولاً بأكملها من التاريخ كانت مجهولة ثم انفتحت لك، وإن كثيراً من الشخصيات قد خرجت من صفحاتها وكأنها حية وتجسدت أمامك فرأيتها رؤية العين)().

إن المستعرب الروسي لا يقوم بإحياء الماضي ليجعله بديلاً للحاضر أو ليجعل الحاضر استمراراً لهذا الماضي أو إطالة له. الماضي، الذي مارس العرب المسلمون فيه دورهم الحضاري في الإرث البشري، والذي يحكم المستشرقون الأوروبيين، بأن الشخصية العربية الإسلامية قد أبدعت فعلها التاريخي وانتهت، وماتت بانتهاء الفعل التاريخي الماضي للشخصية العربية الإسلامية، وبالتالي فإن هذه الشخصية غير قادرة على ممارسة الفعل الحضاري مرة أخرى، وبالتالي فإن إحياء المستشرق الغربي للماضي العربي الإسلامي هو إحياء من باب استمرار الماضي في الزمن الحالي، وأن العرب المسلمون مازالوا يعيشون في تلك الفترة من الفعل الحضاري الذي مضى عليه قرون. أقول أن إحياء المستعرب الروسي لشخصيات مخطوطاته ليست من باب الفعل الأوروبي الغربي ذاته: وإنما من باب ربط الماضي بالحاضر، إذ عاش في الماضي الزاهي شخصياته العلمية المبدعة، وفي الحاضر الآن تنبعث الشخصية العربية الإسلامية لتمارس دورها في التاريخ الحالي، فهي ليست شخصية محكومة فقط بالماضي، وإنما هي شخصية حية تقوم بفعلها التاريخي وضمن شروطها التاريخية، فيقدم كراتشكوفسكي شخصيتين عربيتين إسلاميتين، واحدة منذ قرون من الماضي البعيد، والأخرى عايشها وتعامل معها: يقول: كراتشكوفسكي:

(وقد تذكرت بابتسامة حياة التبريزي التي قضاها في  بغداد كأستاذ في المدرسة النظامية المجيدة، وكيف أنه بعد موته، كان الناس يشيرون إلى معجم كبير قد حمله أيام شبابه على ظهره من تبريز إلى بلاد الشام، لكي يدرس عند شاعر وعالم مشهور أعمى هو أبو العلاء في المعرة بالقرب من حلب، ويبدو ظهر المعجم كأنه أصابه البلل بالماء، والسبب في هذا يرجع إلى طول الفترة التي قضاها المعجم محمولاً على ظهر التبريزي فأصابه العرق الذي نتحه ظهره)() إن كراتشكوفسكي يقدم لنا الشخصية الإسلامية شخصية إنسان ساع للعلم لا يتوانى في سبيله من تجشم عناء السفر، حاملاً كتبه من تبريز إلى الشام ليتتلمذ على يدي أبي العلاء فالمسلم طالب للعلم متابع له هذا عن عالم من الماضي، وعن الحاضر، يحدثنا عن العلماء المعاصرين أحفاد أولئك العلماء الدؤوبين ضمن الشروط التاريخية، فهو يصف المكتبات العربية خلال رحلته إلى الشرق العربي المسلم فيتحدث عن مكتبة الأزهر وعن المكتبة الخديوية وعن إتاحة فرص الانتفاع بالمخطوطات للباحثين دون تعقيدات كثيرة في مكتبة الأزهر قياساً إلى تعليمات المكتبة الخديوية الصارمة (وها أنا أسرع إلى مكتبة الأزهر والأزهر هذا هو أكبر مدرسة إسلامية أسست في القرن العاشر للميلاد. وفي المساء ذهبت إلى الشيخ وأخذت منه بلا صعوبات كثيرة بعض المخطوطات إلى منزلي.()

هذا عن بعض مكتبات مصر وفي بيروت يتحدث عن المكتبة الشرقية في جامعة القديس يوسف فيقول(وكان يحزنني أن أقرأ بعد وصف بعض المخطوطات القيمة التي أعرفها عبارة مختصرة. Disparu durant laguerre. (فقدت في زمن الحرب)، إن البربرية الحديثة لم ترحم هذه المجموعة أيضاً، التي كانت في سوريا أحسن ماوجد منها من حيث ترتيبها.. والعادات المتبعة في المكتبة أنظمة وعادات بطريركية حقاً فلو أنني أردت أن أستعير منها أي كتاب إلى منزلي فإن كل مايلزمني هو أن أسجله بنفسي في دفتر كبير ملقى مفتوحاً على المنضدة).() هذا جانب آخر من جوانب الشرق العربي الحديث يصوره كراتشكوفسكي إنها الاهتمامات الفكرية وإحدى صورها المكتبات العامة، كما يصور اهتمام الأديان، إسلام ومسيحية، بهذه الصروح الحضارية والحفاظ على الكنوز القديمة المحفوظة فيها، فهذه مكتبة الأزهر وتلك مكتبة جامعة  القدس يوسف، والمكتبة الخديوية، ومكتبة الإسكندرية، إضافة إلى المكتبات الخاصة مثل مكتبة أحمد تيمور في مصر، والمكتبة الخالدية في القدس، وفي حلب المكتبة المتربولية المارونية. (وكل مكتبة سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، غنية أم متواضعة، كان لها طابعها الخاص، إلا أنها جميعاً كانت تقابل بترحيب زوارها الجدد وتكشف لهم كنوزها بسعادة وطيب خاطر)().

إن كراتشكوفسكي يعكس صورة الشرق المعاصر المهتم بالفكر والأدب والثقافة، اهتماماً رسمياً ودينياً وشخصياً، وصورة الشرقي المنفتح على الآخر، ذو الاهتمامات العلمية. إن النهضة الحديثة للشرق العربي المسلم تظهر بوادرها في كل مكان، (وفي الصيف عندما غادرت بيروت ورحلت إلى أماكن أخرى فهناك كان معلمو القرى وصحفيو المدن الصغيرة ومراسلو الجرائد وأطباء القرى كل هؤلاء قابلوني هناك بود وترحاب وكان الحوار بيننا يستغرق عدة ساعات بعد أول لقاء بهم وكانوا جميعاً يتأججون  والثورة تتقد في نفوسهم وفي خيالهم حلم بالتحرر الوطني)()

إن كراتشكوفسكي في حديثه عن الشرق المعاصر، الشرق العربي المسلم، يقدم صورة تختلف اختلافاً كبيراً مما قدمه ورسمه الأوروبي الغربي، ففي نفس الوقت الذي تواجد فيه كراتشكوفسكي في مصر وسوريا ولبنان، كان هناك علماء غربيين مثل البلجيكي لامنس، والفرنسي رونزفال وغوتهيل، والإيطالي فيللينو، ومارك ليدزبارسكي، إلا أن الحديث عن شخصية الشرقي المسلم، وتقديمها إلى العالم اختلفت اختلافاً بيناً، بين هذا وأولئك، إذ غالباً كان المستشرقون الأوربيون الغربيون ينظرون إلى الشرق المسلم على أنه مكان للمغامرة الجنسية والمتعة (فقد كان الشرق مكاناً يذهب إليه المرء بحثاً عن تجربة جنسية لا تنال في أوروبا. وليس ثمة من كاتب أوروبي، أو كاتبة أوروبية، كتب عن الشرق أو سافر إليه في مرحلة ما بعد 1800م، استثنى نفسه من هذا البحث)()

إن شرق كراتشكوفسكي هو الشرق الناهض الذي يمور بالحركة والحياة، الشرق المتنور حيث الصحف والكتب والمكتبات والمعلمون والأطباء، إن الشرق لم يمت  بانتهاء حقبة حضارية، إنه ينهض ليمارس دوراً في الحياة البشرية إنه شرق من نمط آخر مختلف عن شرق الأوروبي الغربي الذي مازال غارقاً في سباته، الشاذ، الكسول، المنغلق، الذي لا يوحي بالحياة فيه إلا (النقوش وزريق الطيور هما الشيئان الوحيدان في مصر اللذان يدلان أي دلالة على الحياة)()، إن الشرق المسلم عند كراتشكوفسكي ليس  الشرق الذي يقصده الأوربيون الغربيون للبحث عن متع جنسية لم يتذوقوها في بلادهم (وبمرور الوقت أصبح “الجنس الشرقي” سلطة تعادل في سوائيتها أي سلعة أخرى في المتناول ضمن الثقافة الجماهيرية، بحيث أن القراء والكتاب كانوا يستطيعون الحصول عليها إذا رغبوا في ذلك، دونما حاجة إلى الذهاب إلى الشرق)().

هكذا صور المستشرقون الأوروبيون الغربيون الشرق المسلم، وتمت تقديم هذه الصورة للقراء وللأجيال المتعاقبة. وإذا كانت هذه  صورة الشرق المسلم التي ورثتها الأجيال الأوروبية عن مستشرقيها، فإن ما أورثه المستعربون الروس لخلفائهم كان أمراً مختلفاً، يقول كراتشكوفسكي في حديثه عن أبي العلاء المعري:

(وكنت قد ورثت  هذا الاهتمام الشديد بأبي العلاء المعري من معلمي روزن الذي كان في آخر أيامه شغوفاً بهذا الفيلسوف المتشائم اللاذع السخرية والحقيقة أن أبا العلاء المعري ينفذ إلى أعماق النفس البشرية بتحليله الدقيق المتشائم، بابتسامة ساخرة لينة يحاول أن يكتم مرارة اليأس وسواد أفكاره)() إن هذا الاهتمام بالمفكرين العرب المسلمين، وبالشخصيات العلمية العربية، كان يتقاسمه المستعرب الروسي  مع الباحثين العرب، حيث كان يتم النقاش وتبادل الآراء حول الموضوعات المختلفة مثار النقاش، أو المخطوطات مدار الجدل، وفي هذا لم يكن المستعرب الروسي يصدر في حكمه وآرائه على التراث  الثقافي للعرب المسلمين من نظرة أحادية، وإنما من خلال الحوار مع أبناء هذا التراث أنفسهم، وهذا كما قلت مدعاة لأقل مايمكن من الخطأ من جهة، ومن جهة أخرى يدل هذا التعاون بين الروس والعرب، أن المستعرب الروسي نظر إلى رجل العلم العربي من موقع الندية والتكافؤ وليس من منطلق التفوق، ونظرة الوصاية التي انطلق منها المستشرق الأوروبي، الذي اعتبر أن هذا الشرق المتخلف، لا يملك أن يدير شؤون نفسه، فهو يحتاج لمن يفكر عنه وينظمه، لأنه غير قادر على التفكير العلمي والإبداع، ويفتقر إلى الدقة، الشرقي الفوضوي الذي عبر عنه شاتوبريان بقوله: (عن الحرية لا يعرفون شيئاً عن الاحتشام ليس لديهم شيء، القوة هي ربهم، وحين تمر بهم فترات طويلة لا يرون فيها فاتحين، يطبقون عدالة السماء، فإنهم يبدون مثل جنود دون قائد، مثل مواطنين دون مشرعين، مثل عائلة دون أب)() ويقول كرومر (قال لي سير الفرد لايل مرة إن الدقة كريهة بالنسبة للعقل الشرقي، وعلى كل إنسان انجلو. هندي أن يتذكر هذا المبدأ الأساسي. والافتقار إلى الدقة. الذي يتحلل بسهولة ليصبح انعداماً للحقيقة  هو في الواقع الخصيصة الرئيسية للعقل الشرقي. الأوروبي ذو محاكمة عقلية دقيقة، وتقريره للحقائق خال من أي التباس، وهو منطقي مطبوع، رغم أنه قد لا يكون درس المنطق، وهو بطبعه شاك ويتطلب البرهان قبل أن يستطيع قبول حقيقة أي مقولة. ويعمل ذكاؤه المدرب مثل آلة ميكانيكية. أما عقل الشرقي، فهو على النقيض مثل شوارع مدنه الجميلة صورياً، يفتقر بشكل بارز إلى التناظر ومحاكمته العقلية من طبيعة مهلهلة إلى أقصى درجة ورغم أن العرب القدماء قد اكتسبوا بدرجة أعلى نسبياً علم الجدلية (الديالكتيك) فإن أحفادهم يعانون بشكل لا مثيل له من ضعف ملكة المنطق، وغالباً ما يعجزون عن استخراج أكثر الاستنتاجات وضوحاً من أبسط المقدمات التي قد يعترفون بصحتها بدءاً)().

إذاً هذا هو العقل العربي، المحدود، الفوضوي، غير المنطقي، الذي رآه المستشرق الغربي يقابله العقل الأوروبي الذكي، المنظم الدقيق، الذي يجب أن يقوم بعبء نهضة الشرق من خلال الوصاية عليه واستعماره أما المستعرب كراتشكوفسكي فيقدم لنا شخصية إسلامية تعامل معها عن قرب هي شخصية الشيخ المحمصاني، أحد خزنة مكتبة الأزهر، في معرض حديثه عن مخطوط رسالة الملائكة لأبي العلاء (لكن الشيء الذي لم أستطع فهمه من أمر هذه الرسالة، هو السبب في أنها لا تذكر إلا نادراً، ولماذا كانت نسخ مخطوطاتها  الأخرى مجهولة تماماً؟ ولم أكن أنا وحدي الذي عجبت لهذا الأمر، بل قد شاركني في هذا العجب أيضاً الشيخ المحمصاني، أحد خزنة المكتبة الذي كان يقوم دائماً بإعطاء المخطوطات وكنا نتحاور مراراً عن مختلف الموضوعات الأدبية، بل وعن مدى صعوبة تعلم اللغة الفرنسية)(). إن كراتشكوفسكي قدم الشخصية العربية المسلمة هنا، شخصية إنسان ذو عقل منفتح، يتحاور ويناقش ويتفاعل ايجابياً مع الآخر ويطور نفسه وينفتح على ثقافات الآخرين من خلال تعلم لغاتهم ومحاولة التغلب على صعوباتها التي كانت مشتركة بين الروسي والعربي المسلم ويقدم كراتشكوفسكي شخصيةعلمية عربية لبيئة الاستعراب الروسي تمثل دقة وتنظيم العقل العربي، فيتحدث عن المراسلات التي كانت تتم بينه وبين العالم الأديب أحمد تيمور باشا بشأن مخطوط أبي العلاء المعري (رسالة الملائكة)، فيقول: (وعندما تجددت الروابط العلمية الدولية بصعوبة وإصرار، وجدت على غير انتظار زميلاً في العمل متحمساً ومحباً لأبي العلاء تحمس روزن وتلميذه الأصغر. هذا الزميل هو أحمد تيمور باشا، المصري صاحب أحسن مجموعة خاصة من المخطوطات في القاهرة، كان قد جمعها بحب كبير وسعة معرفة كان هذا العالم كريماً لدرجة عجيبة فقد كشف كنوزه لمختلف العلماء من مختلف البلاد، وكان متواضعاً نادر الوجود فقد كان يجعل من نفسه زميلاً في العمل لمن  يراسله من العلماء إذا أحس بأن لدى هذا المراسل تذوقاً للأدب العربي، وكانت مجموعة هذا العالم تحتوي مخطوطاً آخر عن (رسالة الملائكة) فبدأت بين القاهرة ولينغراد مراسلات حية. ومن جديد ثارت مناقشة حول مختلف الأشكال وتبيان الإشارات والافتراضات المتعلقة بها. وعلى تلك القصاصات النظيفة المستطيلة التي كتبت بخط شيخ عجوز لكن بحروف جميلة واضحة كان أحمد تيمور باشا من أسبوع لأسبوع يرسل إلي بأفكاره واقتباساته في رده على أسئلتي، أو يرسل إلي مايخطر بفكره هو نفسه، وفي كل مرة بنشوة مضطرمة كنت أفتح خطاب تيمور باشا الذي كنتُ أجد فيه مراراً الجديد من الاكتشافات، بل كنت أجد أحياناً وبدون توقع شعراً وأمثالاً وأقوالاً، كنت في ذلك الوقت أشد ما أكون حاجة إليها لتوضح تلميحات أبي العلاء التي تعبنا أعواماً عديدة في محاولة كشفها وتبينها)() إن الفرق واضح جلي بين تقديم الاستشراق الأوروبي الغربي للشخصية العربية المسلمة، وبين تقديم الاستعراب الروسي لنفس الشخصية. إن الأول يورث الرغبة في التملك والسيطرة والاستعمار، لعدم كفاية العقل العربي على إدارة شؤونه وتنظيمها، يورث الثاني التكافؤ في التعامل والاحترام لعقول الآخرين وشخصياتهم، وإنصافهم من خلال التعامل من موقع التكافؤ الإنساني، الذي سمح بالتعاون العلمي بين المستعرب الروسي والعالِم العربي. إن الشخصية الإسلامية المحبة للعلم الواعية، لم تقتصر فقط على عدد محدد من العلماء، وإنما برز الاهتمام الثقافي حتى لدى أولئك الذين يديرون أعمالاً ومصالح أخرى. يقول كراتشكوفسكي (فقد أردت أن أتعرف على حبيب الزيات الذي كان يعمل بتجارة الفاكهة المجففة وتصديرها إلى جميع أنحاء العالم ولكنه كان ينتهز كل دقيقة من أوقات فراغه ليبحث في المخطوطات وقد كان عالماً دقيقاً ذواقاً ومحباً للمخطوطات، وبكل هذه الموهبة التي أوتيها كان يختلس من المخطوطات القديمة صوراً منسية تتصل بالثقافة العربية ثم يعمل على إحيائها في مقالاته المتعددة التي طبعت في مابعد)().

إذن، هذه هي نماذج العقل العربي التي يقدمها الاستعراب الروسي لقرائه، العقل الذي ساهم في إخراج تراثه المخطوط إلى النور من خلال تبادل الآراء والنقاش والتعاون العلمي مع العلماء الآخرين وإذا كان هناك ثمة عمل إحيائي للتراث العربي الإسلامي فقد قام العلماء العرب متعاونين في مرات عديدة مع العلماء الأجانب، تعاون الأكفاء لا تعاون الأوصياء. إن حرية التفكير وإتاحة حرية التعبير للعقل العربي تمت ممارستها بأوسع صورها في عصور ازدهار الحضارة العربية والإسلامية، هذا ما أراد المستعرب الروسي قوله عندما قرأ الأبيات التالية للأخطل الأموي:

 

ولست بآكل لحم الأضاحي

ولست بصائم رمضان طوعاً

كمثل العير حيِّ على الفلاح

ولست بقائم أبداً أنادى

وأسجد عند منبلج الصباح.

ولكني سأشربها شمولا

فعلق عليها قائلاً (على أن الشاعر لم يعاقب على هذا الهجاء لتحريم الإسلام الخمر، وللصوم والحج والآذان، وقد هدأ غضب الخليفة ببيتين، ليسا أقل دعابة، وفيهما صور الشاعر حالته تحت تأثير الخمر. أعطتني هذه الأبيات. القدرة على فهم العلاقات الداخلية للخلافة بصورة أكبر مما أعطتني إياه بعض الصفحات عن ((تاريخ الإسلام)) للعالم ميولر، الذي قرأته أكثر من مرة.وبالطبع فإن هذه الأشعار متجاسرة ولذلك فإنها عندما ظهرت مطبوعة لأول مرة في بيروت في العقد العاشر من القرن الماضي، كان من غير الممكن أن تمر دون رقابة المطبوعات التركية، إلا بواسطة وضع نقطة على كلمة “العير” التي وصف بها الشاعر المؤذن فصارت كلمة لا تؤلم المسلمين هي كلمة “الغير” وهكذا كانت رقابة المطبوعات التركية في القرن 19 أكثر تشبثاً من خليفة دمشق في القرن الثامن)().

إن أحد أهداف استعراب كراتشوفسكي، هو فهم العلاقات الداخلية في الدولة العربية الإسلامية، بين الإسلام والأديان الأخرى التي كانت تعيش ضمن الخلافة العربية. وخلص كراتشوفسكي من هذه الأبيات إلى أن الإسلام  في هذه الدولة العربية الإسلامية أتاح الحرية الكافية للأديان الأخرى للتعبير عن الرأي، ومعروف أن الأخطل كان نصرانياً. وحرية التعبير التي مارسها الأخطل إلى درجة وصفها كراتشوفسكي بأنها متجاسرة، أمام الخليفة المسلم، الذي يمثل أعلى سلطة دينية وزمنية في ذلك العصر، هذا الخليفة الذي ضمن حرية التعبير للأدباء فلم يعاقب الأخطل وحُفِظَتْ أبياتُه على مدى العصور، إن هذا الموقف لا يصدر عن عقل منغلق متعصب. بل عن عقل حر منفتح وقارن كراتشوفسكي موقف الخليفة مع موقف الرقابة التركية على المطبوعات بعد أحد عشر قرناً وبالتالي فإن قمع حرية الرأي تهمة لا يلصقها كراتشوفسكي بالعقل العربي المسلم في القرن الثامن، وإنما بالعقلية التركية في القرن التاسع عشر، وهذه لفتة عز نظيرها لدى المستشرقين الغربيين الذين ألصقوا  تهمة العقل المنغلق على ذاته وعلى الآخرين بالمسلم إطلاقاً، بغض النظر عن الشروط التاريخية التي عاشها المسلم في الأزمنة المختلفة. إن كراتشكوفسكي، من خلال استعرابه، يقدم حرية تفكير الأفراد في الدولة العربية الإسلامية على أنها جزء من تفكير الدولة، وإتاحة التعبير الفكري سواء للمسيحيين (الأخطل) أو للمسلمين، ففي حديثه عن مخطوط (رسالة الملائكة) لأبي العلاء المعري يقول: (أصبح واضحاً لي من السطور الأولى، لماذا كانت هذه الرسالة قليلة الشهرة إلى هذا الحد: فلو كان عند العرب فهرس للكتب الممنوعة والمحرمة. لاحتلت فيه هذه الرسالة مكاناً مرموقاً. والواقع أنها كما يبدو من شكلها تتحدث عن موضوعات نحوية، وتتناول أيضاً، نقطة جديرة، لها اهتمام كبير من الناحية الدينية، هي مسألة الصور الإعرابية المختلفة لأسماء الملائكة مصحوبة باقتباس من القرآن والشعر، وكما هي العادة تذكر أسماء مشهورة في الأدب مع تلميحات أدبية لا تحصى، إلا أن هذا ليس سوى غطاء الرسالة والشكل الخارجي لها أما في الحقيقة فإن الرسالة التي تبدو من الخارج رسالة نحوية: تقليدية، تخفي وراءها هجاء لاذعاً، وسخرية فكرية شديدة، من فهم بعض المسلمين لحقيقة الملائكة، وهذه الطريقة الساخرة لأبي العلاء هي نفسها طريقته في رسالته المشهورة “رسالة الغفران” حيث نجده بسخريته اللاذعة نفسها يتهكم بالوصف التقليدي القديم للحياة بعد الموت)().  وكراتشكوفسكي لا يقدم للقارئ فقط مسألة حرية التفكير والتعبير لدى العرب المسلمين، وعدم وجود تحريم أو منع للأفكار والكتب، بل ويتبع ذلك بصورة مقارنة لما مارسته الكنيسة  من منع تجاه نفس الأفكار المطروحة تقريباً لدى أبي العلاء. فيتحدث عن مخطوط وقع له ويعود إلى العام 272هـ (وقرأت بانتباه عظيم في ذلك الكتاب، حيث يتحاور الشيطان مع الموت، وأدركتُ لماذا لم تدرجه الكنيسة في قانونها، ففي هذه المخطوطة تنعكس. بوضوح قوي المشاعر  الإنسانية بطريقة تخالف دستور الرهبان)(). إن كراتشكوفسكي يقدم للقارئ صورة أخرى من صور حرية التفكير والتعبير المتاحتين لدى العرب المسلمين فرسالة أبي العلاء المعري لم تحظ بالشهرة، إلا أنها بنفس الوقت قد تمت المحافظة عليها فلم تحرق، أو تمنع، أو يعاقب صاحبها، وإنما بقيت حية طيلة قرون عديدة.

إن الحديث عن حرية الرأي والتفكير لدى المسلمين والمسيحيين في الخلافة العربية لا يعكس فقط المناخ الإيجابي لتفتح التفكير العربي، ولكافة الأديان، فقط، وإنما يعطي صورة أيضاً بأنه لم تكن هناك مشكلة بين المسلمين والمسيحيين الذين يعيشون في كنف الخلافة العربية، ويعكس جو التسامح الديني الذي كان سائداً في المجتمع والدولة على حد سواء.

إن ديمقراطية التعبير وحرية التفكير في الحضارة الإسلامية العربية هي التي أتاحت الإبداع للمفكرين والعلماء العرب، فأثروا الحضارة الإنسانية، وأصبحت هذه الحرية تقليداً في الدولة العربية الإسلامية، إلى أن دخلت العناصر الأجنبية على التفكير المتسامح، في عصور الظلام الاستعماري، فمارست الاضطهاد الفكري.

وعن علاقة المستعرب الروسي مع العلماء العرب، يتحدث كراتشكوفسكي عن أحمد تيمور باشا (الذي كان يجعل من نفسه زميلاً في العمل لمن يراسله من العلماء، إذ أحسّ بأن لدى هذا المراسل تذوقاً للأدباء لعربي)، وقد اكتشف كراتشكوفسكي نفسه فيما بعد، أن هناك مخطوطاً آخر لـ(رسالة الملائكة) موجوداً في المكتبة الخاصة لأحمد تيمور باشا، وتمت المراسلات بينهما حول هذا المخطوط، فكان تيمور يجيب عن الأسئلة المختلفة للمستعرب الروسي، أو يرسل إليه بأفكاره واقتباساته وآرائه بطيب خاطر. وهكذا ساهم الشرقيون أنفسهم مع المستعربين من خلال إبداء آرائهم وملاحظاتهم وتوضيحاتهم في إخراج تراثهم إلى النور.

لقد طابق الاستشراق الأوروبي الغربي بين شخصية المسلم المنفتحة في عصور ازدهار الحضارة العربية الإسلامية، وبين العقلية الإسلامية المنغلقة في زمن الاستبداد التركي وجعلها شيئاً واحداً، بحيث أضحت هذه الشخصية مرتبطة بصفات محددة وثابتة منغلقة وغير قابلة للتطور، وأصبح هذا الانغلاق والتخلف خاصتين من خصائص شخصية المسلم الشرقي غير قابلة للتغير أبداً.

إن من دوافع الاستعراب الروسي، فهم الشعوب و الحضارات الأخرى، ليس بدافع غرائبية هذه الشعوب، وإنما لقناعة هذا الاستعراب بأن حضارات الشعوب نتاج المجتمعات المختلفة تصب في النهاية في مجرى التاريخ الحضاري الواحد للمعرفة البشرية الذي تتعدد روافده بتعدد الشعوب واختلافها وتمايزها وإن دراسة حضارات الشعوب وإبداعها لا ينم عن ذوق ذاتي لمعرفة المجهول من المجتمعات الأخرى، وإنما عن إحساس بالمسؤولية تجاه ضرورة التوصل البشري الإنساني من خلال التعريف بثقافات الشعوب المختلفة، وتقريب شخصية الآخر كي لا يكون بمنأى عن الأحكام الموضوعية، وبالتالي يساهم الوهم والأسطورة في تكوين هذه الشخصية والحكم عليها فيقول كراتشكوفسكي (وإني لشديد الرغبة في أن أفهم بعمق موضوع علاقات العرب مع الشعوب المغلوبة في البلاد التي استولوا عليها، وأريد أن أفهم الروابط بين المسلمين والمسيحيين)().

فإذا كانت مسألة العلاقات بين المسلمين والمسيحيين لدى الاستشراق الغربي قد قيمت سلفاً، من خلال الركام الثقافي الذي أفرزته الحروب الصليبية، وقُدِّم هذه الركام صورة مشوهة عن هذه العلاقات، فإن علاقات المسلمين والمسيحيين لم تكن قد  قيمت في الاستعراب الروسي من خلال الحروب الصليبية. وإنما عمل المستعربون الروس بدأب لفهمها ومعرفتها من خلال دراسة المصادر الأساسية التي شكلت التاريخ العربي الإسلامي وثقافته بتجلياتها المتعددة. وتم تقييم العلاقات بين العرب وشعوب البلاد التي فتحوها تقييماً موضوعياً فعن وجود العرب في الأندلس، ودورهم في الثقافة الأوروبية وتأثيرهم الفعال، يقول كراتشكوفسكي (فعبر جسر العرب هذا دخل جميع مشاهير اليونان كأرسطاليس وإقليدس وبطليموس وغالينوس وأبو قراط إلى أوروبا، التي ما تعرفت بهم، إلا بواسطة نقل مؤلفاتهم من العربية إلى اللاتينية حتى جاء عصر النهضة، أما عدد المؤلفات العربية الأصل العلمية المترجمة إلى اللاتينية فكان كذلك كبيراً)() ويقول: (وبطرد العرب نزفت إسبانيا دماءها)() إن العرب كانوا روح إسبانيا.

وعندما يتحدث عن دخول العرب إلى الأندلس، لا يصفهم بالغزاة، وإنما يتحدث عن الفاتحين والفتح والفتوح العربية يقول: (وسرعان ما سقطت قرطبة وطليطلة في أيدي العرب، وسارت حركة الفتح إلى الشمال)(). ويصف خالد بن الوليد بالقائد الفاتح (وكان باعث هذا الإحساس ذكريات تاريخ قديم يتصل بالقائد العربي المشهور خالد بن الوليد فاتح الشام في القرن السابع الميلادي)() كما يتحدث عن ظاهرة انتشار اللغة العربية في كل البلدان التي فتحها العرب المسلمون حيث: (أخضعت هذه اللغة كل العالم الذي دان بالإسلام، وهي ظاهرة نادرة نوعاً ما في تاريخ فتوح الشعوب غير المتحضرة للأقطار المتحضرة)(). إذن هكذا يقدم المستعرب الروسي عملية توسع الإسلام في مختلف أنحاء العالم، وهكذا يصف القادة العرب المسلمين، وشتان بين تعابير مثل (الاستيلاء) و(الغزو) وبين تعابير (الفتح، الفاتح……)، ذلك أن هذا المستعرب، لا يصدر في كلامه عن موقف مسبق، ولا عن فكرة عدائية ثابتة وإنما يضع الأمور في نصابها، وهذا مايجعل منه باحثاً ومستعرباً منصفاً، يحمل مسؤولية علمية وتاريخية لا علاقة لها بدوافع غير دوافع المعرفة الإنسانية. يقول: (إنني لا أخفي أنني أردت أن أقوم بشيء من الدعاية لميدان عملي، وأن أتحدث بملء صوتي عن علم اللغات والآداب الشرقية لقد أردت أن أبين قدر طاقتي، كيف أن ثمة أناساً يعملون في هذا الميدان، لا لمجرد أن لديهم ذوقاً ذاتياً غريباً على حد تعبير بعضهم، يجتذبهم إلى هذا العمل، وأن هؤلاء الناس يطوفون بهذا الميدان لا بدافع الولع بالغرائب، وأنهم ليسوا بزهاد وينعزلون عن الحياة)(). إن الدافع لاستعراب كراتشكوفسكي وغيره من المستعربين الروس لم يكن بدافع الولع بغرائبية الشرق وإنما هو عمل معرفي يتصل بحضارات الشعوب الإسلامية وإذا كان الشرق عالماً عجيباً يُدرسُ لعجائبيته هذه، وللصور الخيالية التي ارتبطت في ذهن الغرب الأوروبي عن هذا الشرق الذي كان مزدهراً، والآن أصبح أسطورة ميتة لا حياة فيها، لأن سنوات الازدهار الحضاري انتهت، وانتهى معها الشرق العربي المسلم، وانتهت معهم لغتهم التي أصبحت لغة ميتة لا تواكب تطورات الحضارة المعاصرة. إن الاستشراق الغربي يكرس فكرة موت هذا الشرق حضارة ولغة وأن الغرب هو الذي سيبعث فيه الحياة. إن الشرق نفسه غير قادر على الانبعاث من جديد.

وهنا يختلف الاستعراب الروسي عن الاستشراق الأوروبي الغربي إذ (توجد  في العائلة البشرية الكبرى، أمم يعتقد حسب الرأي السائد بأنها لم تعد تلعب دوراً نشيطاً في التطور الحضاري العام ويورد كل باحث في هذا المجال تحفظاً يؤكد فيه أن موضوع بحثه يتسم بأهمية (أكاديمية)، فقط، وليس له شأن يذكر بالنسبة للواقع العصري وعندما يبدي هذا الباحث إعجابه الشديد بالماضي المجيد، غالباً ما يغيب هذا الواقع العصري عن باله، فلا يرى، كيف تقوم، على أنقاض الماضي، حياة جديدة تمنح البشرية مفاجآت لا تتميز أحياناً بصفة أكاديمية على الإطلاق، والعرب هم من بين تلك الأمم)(). إنه الشرق المتجدد (الشرق العربي الحي)().

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*