لوحة (نقل الكِسوة المقدسة) إحدى أفضل لوحات الرسام قسطنطين ماكوفسكي

مَحْمَل كِسوة الكعبة ومزامير الدراويش بريشة الروسي ماكوفسكي

ترجمة وتحرير ناظم مجيد حمود

لوحة (نقل الكِسوة المقدسة) إحدى أفضل لوحات الرسام قسطنطين ماكوفسكي (1839-1915) الجديرة بوصف تفصلي، إلى هذا الحد أو ذاك. أهمية هذا الوصف كون المشهد لم يأخذ من عندنا، إنما من حياة غريبة عنا تماماً، من الشرق البعيد، نقصد مصر، حيث عاش الرسام بعض الوقت، وإذا ما تذكر القراء، فإنه عاد من هناك وبحوزته احتياط فني هائل، مع معرض لوحات كامل، شاهدها أهالي بطرسبورغ في قاعات (جمعية تشجيع الفنون). لا شك أنه ينبغي تسمية لوحة (نقل الكِسوة المقدسة) كأهم عمل للرسام قسطنطين ماكوفسكي أثناء إقامته في مصر. هذه اللوحة كبيرة المقاس، اشتغل عليها قسطنطين ماكوفسكي عدة سنوات. وهنا لابُدَّ من شرح موضوع اللوحة ومشهدها.
عند المصريين تقليد سنوي هو؛ كل عام يتم إرسال (الكِسوة المقدسة) إلى الكعبة، برفقة قافلة الحجاج، ويرأس قافلة مَحْمَل هذه الكِسوة خديوي مصري، الأمر الذي يمنحه ميزة خاصة، يهبها له السلطان. يتم تجهيز الكِسوة في قلعة القاهرة، بعد ذلك ترسل إلى مسجد الحسين، وفي هذا المكان الشريف تجري خياطتها وتذييل أطرافها، وبكلمة واحدة، تجهز تماماً للإرسال، هذا الحدث يُعد مناسبة لاحتفال كبير وسط المسلمين.

الفرجة والعيون السوداء و(صحتك بالدنيا)!

يصف جيورجي إيبيرس، في مؤلفه الشهير «مصر»، هذه المراسم الممتعة وكل تجهيزات الحجاج على النحو الآتي؛ في الوقت الذي يقومون في مسجد الحسين وبحماس في خياطة الكسوة، تتجمع، رويداً رويداً، في الميادين، أسفل القلعة، قافلة الحجاج. مع نهاية شهر شعبان الكل مستعد للرحيل؛ الكسوة رُزّمت، أسماء الحجاج أدرجت في قائمة قائد القافلة، تموين المعيشة والخيام جُهزت، كل الحقائب حزمت، والتقويم يشير إلى أن أوان الرحيل حان.
في يوم توجه القافلة إلى الحج، ومنذ الصباح، كل القاهرة واقفة على قدميها. الشوارع، من القلعة ذاتها وحتى باب النصر، مكتظة بالناس، الحوانيت مغلقة، وعلى امتداد الطرقات، حيث يسير الموكب، يمكن رؤية مئات رؤوس الناس وهي تتطلع من نوافذ الحمامات العامة والمساجد والبيوت السكنية. النساء وبأعداد كبيرة يتدافعن وسط حشود الفضوليين، من كل عُليَّة تلمع العيون السوداء. مزاج الاحتفال والبهجة يسود في كل مكان؛ ومن كل الجهات يسمع الترحيب (صحتك بالدنيا لتكن معافى أبداً)، والرد بسيط (وأنت أيضاً). من طبيعة سكان القاهرة الولع بالفرجة والفضول الشديد، والآن يكرس هذا للبواعث المباركة، حيث أنَّ المَحْمَل، ولو أنه لا يمثل قيمة سوى رمز للعزة الملكية، وليس له أصل ديني تماماً، ولكن الشيء المذهل أنه يحظى باحتفاء مميز في أوساط المسلمين. ومن نتيجة هذا أنّه قام برحلات كثيرة مع الحجاج، وأصبح في عيون الكل فرضا مقدسا، وليس مسه فقط يجلب البركة، وإنما حتى مجرد التأمل فيه. ويختتم، دائماً، موكبه باحتفال مهيب يجذب له اهتماما عاما. هذه المناسبة يفتتحها الجند، الطبالون، الراكبون على الجمال العالية الشامخة، وقطيع كامل من دواب الحمل مع أمتعة الحجاج، وقِرب جلدية، خيام وغيرها، وكذلك مع سجاد مقدس مغلف ومحزم بعناية.

رزانة الإبل ونواقيسها ولاعبو الشيش

يبدو النظر إلى هذا الموكب، وكأن الإبل تتصرف برزانة مميزه، وتفتخر بما علقوا عليها من نواقيس، صبغوها بلون برتقالي وزينوها بسعف النخيل، فتراها تتمايل برشاقة أثناء حركتها. على أحدها توجد، خزانة الحجاج، مغطاة بجوخ أحمر، أنشأتها الحكومة لتغطية نفقات القافلة العامة. الموكب يمتد أفواجاً، وأحياناً يضطر للانتظار لبضع دقائق، ليظهر فوج جديد. وفي كل الفترات الفاصلة يُطْفِئ سقاة الماء وبائعو الشراب الحلو عطش الظامئين، أما المصارعون والمبارزون بالسيف (لاعبو الشيش)، الذين يرتدون سراويل جلدية فقط، ويعدون معارك ومبارزات مسرحية لتسلية الناس. غير أَنّ هذه الألعاب تتوقف بعد حين، لأن الدراويش، المصطفون بإخوة، يقتربون مع الطبول والمزامير وهم منفعلون، وبصيحاتهم وحركاتهم الإيمائية يلهبون بخفة عصبية الحشود. وتدريجياً تصبح بهجة الناس عالية، أخيراً وعندما يظهر محمل يتمايل بين جملين يتلوهما آخران مع (قافلة الأمراء)، ومفوضي الحكومة المسؤولين عن إدارة شؤون بعثة الحج. ثم يظهر دليل الحجاج، الذي يسير في مقدمة الجميع في البادية ويدلهم على الطريق، ويتبعه حشد كامل مختلط من الضباط، الدراويش، وأهالي المدينة ومسلي الناس. ومثل الإبل، زينت أيضاً الخيول والحمير كما في العيد وبالرايات والسعف والأغصان الخضراء.

الطربوش والهودج وزغاريد النساء

مع القافلة تسير أفواج مشاة وخيالة، في زيها الجميل (سترها الرسمية)، مع أسلحة جديدة براقة، تحظى بمشهد مؤثر، ومع هذا تخدم أيضاً كحرس أمين لأهم جزء من الموكب. ووراءها يسير قائد الشرطة المحاط بالقواسين على الخيول، وخلفه على فرس مزينة بتألق رئيس القافلة مع ثلاثة كتبة، وأخيراً الإمام المؤمن. ومع الأخير التحقت صفوف مديدة من الدراويش ينتمون إلى فرق متعددة، تتميز إحداها عن الأخرى بلون (الطربوش)؛ يسيرون رافعي الرايات، مثل العاملين في الورش لهم شعاراتهم وأعلامهم. الصف الطويل من المارة، الذين يتحد معهم مختلف الأوباش، ليس له نهاية. كل حشد محدد يتقدمه عازفون ينعشون من ضعف اهتمامه من المشاهدين. وفجأة يتهادى من بعيد إلى مسامع المشاهد الذي نفذ صبره ويفكر في ترك المهرجان، ما يشبه هدير زمجرة اصطدام أمواج البحر بالصخور وتكسرها. هو يسمع ويقتنع أن الأصوات المتداخلة والصخب تتجه نحوه، وبالقدر الذي تقترب منه تصبح أكثر وضوحاً وقوةً. وأخيراً تراه يميز من بين ذاك الضجيج صيحات المعجبين (المحمل! المحمل!). ومن حينها تسمع من حوله ومن كل ثغر هذه الكلمة فقط. آلاف العيون تتوجه صوب نهاية الشارع، من هناك، وفي ظل صخب بهجة الشعب، يتمايل بخفة، المحمل على ظهر جمل يتحرك ببطء. وها هو يمر محاطاً من جميع الجهات بالناس، الظمأى للمسه، لأجل أن ينالوا البركة، من النوافذ يمد الناس السجاد لكي يمس المحمل أطرافها وعبر هذا التلامس يَجْنونَ البركات. وتلك الأفواه التي لا يمكن إحصاؤها تتلو الصلوات، ومع هذه الضجة الرتيبة، الشبيهة بدوي رعد بعيد، تختلط نغمات زغاريد النساء. كل هذا الانشغال لأجل هوادج بسيطة فارغة بأشكال قديمة، كل هذا لأجل صندوق مربع مع سطح منحدر، مغطى بسجاد مبرقش، تُرى أطرافة موشاة بآيات من القرآن. الانفعال الديني في هذا الوقت يبلغ حده الأقصى؛ غير أنه حتى لو كان المشاهد ميالاً إلى الانصياع، فإن منظر الهيئتين المقتربتين يُعيده وبسرعة إلى الصواب. فإلى اليمين من وراء المحمل وعلى ظهر الجمل يظهر، على مهل، رجل برجل واحدة حاسر الرأس أشعث، يلوح شعره في الهواء. هذا هو (شيخ الجمال)، الذي يظهر كل عام في مثل هذا الثوب (غير اللائق) في المجتمع، ويقوم برحلة مع الحجاج. يعقبه، أبو أو شيخ القطط بصحبة (رفقائه)، ذوات الأطراف الأربعة، ومعه يختتم الموكب. في مثل هذا المنظر الموصوف يتوجه الموكب إلى باب النصر، وأخيراً، يخرج من المدينة. تبدأ القافلة الرحيل بعد أن ترتاح في الخيام يومين أو ثلاثة أيام، وتتوقف بعد مسيرة أربع ساعات في النهار للراحة عند (بحيرة الحجاج)، حيث يلتحق بها آخر الرحالين. ويتم ملء تلك القرب بالماء، وأخيراً يعطي القائد الأمر بالتوجه نحو الشرق- إلى حيث بحر رمال صحراء الجزيرة العربية. يقضي الحجاج سبعة وثلاثين يوماً في الطريق لكي يبلغوا في نهاية المطاف الأماكن المقدسة، وفي أقصى الأحوال يمكن بعد انقضاء ثلاثة شهور على مغادرتهم استقبالهم من جديد عائدين إلى القاهرة. في مكة يشارك الحجاج في تلك المراسيم المقدسة، التي تؤدى هناك مع وصول القافلة. وفي العاشر من شهر ذي الحجة يحتفل كل العالم الإسلامي بأعظم عيد له، عيد الأضحى، عندها يقدمون الخراف قرباناً على جبل عرفات، قرب مكة، ويجب على كل حاج أن يصلي ويدعو لجميع المؤمنين بالخير. في هذا اليوم تنحر خراف كثيرة، حتى الفقير يجمع آخر قرش يملكه ليشتري به خروفاً يذبحه، في مثل هذا اليوم، ويأكله على امتداد أيام العيد الأربعة. وخلال هذا ووفق الرحمة الإسلامية الخالصة الكل يهتم بالفقراء، وتنظم لهم موائد شعبية، وهكذا، لا يكاد أن يوجد ولو مسلم واحد، لم يحصل في هذا اليوم على قطعة لحم خروف مطبوخة.
مجلة المصـــورات العالمية. ( 23 شباط1880)، عدد؛ 9- (581). السنة الثانية عشر، ج؛23. ص (179).

المصـدر : صحيفة القدس العربى

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*