الشاعر الروسي يفتوشينكو يكتب سيرته الذاتية

يفتوشينكو يكتب ثورته في سيرته الذاتية المبكرة

كتب – خالد بيومي :

الشاعر الروسي يفجيني يفتوشينكو من مواليد عام 18 تموزعام (1933م – … ) في منطقة أركوتسك ، صدرت الترجمة العربية لسيرته الذاتية عن دار رؤية للنشر بالقاهرة تحت عنوان ” العمق الرمادي .. سيرة ذاتية مبكرة “ ونقلها إلى العربية عن الفرنسية الشاعر والمترجم المغربي إدريس الملياني .ويعد أهم شعراء روسيا الكبار ومن ألمع شعراء العالم المعاصرين . ترجمت أشعاره إلى لغات كثيرة وتناقلت آراءه وكالات الأنباء باعتباره شاعراً كبيراً وذا جرأة على الجهر بما كان مسكوتاً عنه في مجتمعه الاشتراكي ، لدرجة أن قُدم في الغرب بصورة مغايرة لوجهه الحقيقي ، أنكرها هو نفسه : ” يريدون أن يجعلوا مني شخصية مستقلة منفصلة فيما يبدو كبقعة مضيئة عن العمق الرمادي للمجتمع السوفيتي “ .

واستطاع فعلاً أن يحافظ على ” شخصيته الخاصة “ وأن يعبر في الوقت ذاته عما هو مشترك بين جميع الناس وأن ينقل في قصائده أنفاس الآخرين ولكن دون أن ينفي ”أناه“ في الحياة كما في الكتابة .
وقد اختزل يفتوشينكو سيرته الذاتية في هذه المقطوعة الشعرية فيقول :
أنا لم أحرك أي ركود / لكنني فقط / سخرت من الزيف والتهويل / كتبت مقالات / ولم أكتب تقارير الوشاية / وحاولت دائماً / أن أقول كل ما أفكر فيه / نعم / لقد دافعت عن الموهوبين / ودفعت عديمي المواهب / المتسللين إلى صفوف الأدباء / وذلك على العموم هو الواجب / إلا أنهم يؤكدون لي جرأتي / لسوف يذكر أحفادنا / بشعور من الخجل المر / بعدما يقضون على الدناءة / ذلك الزمان الغريب / حين كان الشرف البسيط / يسمى جرأة .

وإذا كان يرى فيها أن ” سيرة الشاعر الذاتية هي قصائده ، أما ما سوى ذلك فليس سوى تعليق “ وريفض الملياني هذا التوصيف فيقول في مقدمة الكتاب : ”هذه السيرة الذاتية المبكرة ليست مجرد تعليق على هامش تجربته الشعرية ، بل شهادات حية من فضاء الواقع الثقافي العام الذي كان يختنق بهواء الواقع السياسي الرمادي الكالح والكابح . إنها تمور بالصور التراجيدية والكوميدية عن كفاح شعبه البطولي في تلك السنوات القاسية من الحرب الوطنية العظمى ضد الفاشية ، حيث قدم عشرين مليوناً من أبنائه قرباناً على مذبح الإنسانية جمعاء ودفاعاً عن وطنه ” السوفيتي “ وثورته ” الاشتراكية “ التي لم يفقد في أعماقه الإيمان بمثلها العليا ، رغم ما عاناه من كابوس المعتقلات والمظالم والجرائم والقاذورات التي تكالبت عليه من كل الملل والنحل والجهات ، فضلاً عما قاساه عبر قرون تاريخية ربما أكثر من أي شعب آخر ، وكان بإمكان هذه التركة الثقيلة – كما يعتقد البعض – أن تحبط روحه وتقتل فيه القدرة على الإيمان بأي شيء . ومع ذلك لم يكفر لا ” بعبادة الفرد “ ولا ” بالعمل المؤله “ بل ظل يقدم لهما ” القرابين اليومية “ دون ان يحظي من ستالين ” حتى بمجرد الثقة ” أو يكشف عن خداعه القناع لأنه كان شعباً “ يفضل أن يعمل على أن يحلل ” حالماً أو واهماً ببناء المجتمع الاشتراكي بالعرق والدموع والدماء التي امتصتها منه طغمة البيروقراطيين الدوغمائيين والانتفاعيين الكلبيين وقضاة التحقيق الجدد والقدامى “ .

وكان موت ستالين في 5 مارس 1953 صدمة ليفتوشينكو الذي لم يستطع تصوره ميتاً ، فكان جزءاً منه ، واستحوذ على الناس جميعاً نوع من الحذر ، فقد تعودوا أن يفكر ستالين نيابة عنهم ، وبغيابه شعروا بالضياع .فكانت روسيا تبكي كلها دموعاً صادقة خوفاً على المستقبل وبكي يفتوشينكوكالآخرين .

وشدد يفتوشينكو على ضرورة النضال من أجل السلم ، لأن كلمة ” السلم “ ليس لها مدلول ملموس من وجهة نظره إلا لأولئك الذين يعرفون هول الحرب ، كذلك غذا كنت مديناً للحرب بشيء ، فلأنها بالظبط ” علمتني ما معنى كلمة السلم “ . والوطن – بالنسبة له – ليس مجرد اصطلاح جغرافي أو أدبي ، بل هو صورة الناس الأحياء . ويحتقر يفتوشينكو النزعة القومية ، العالم من وجهة نظره ينقسم إلى أمتين : أمة الناس الطيبين ، وأمة الناس الأشرار ، ويضع نفسه ضمن الأمة العالمية للناس الطيبين ، لكن حب الإنسانية يمر عبر حب الوطن .

وهذه السيرة لا تكشف القناع عن خداع العهد الستاليني الأسود فحسب ، بل تجيب أيضاً عن كثير من أسئلة تلك المرحلة الربيعية القاسية والتي عرفت ذوبان الجليد على عهد خروتشوف ، وتجيب عن أسئلة مماثلة تمخضت عنها مرحلة الجمود الجديد على عهد بريجنيف ، وترهص في كثير من إشراقاتها بما ستتكشف عنه الأيام كذلك من أوهام ” الشفافية “ و ” إعادة البناء “ على عهد ميخائيل جورباتشوف .

كما تتعرض إلى مسيرة الشعر الروسي الكلاسيكي والمعاصر ، منذ فجر ثورة أكتوبر حتى مطلع ستينيات القرن الماضي ، تلتقي فيها عدة أجيال من كبار الشعراء ، من بوشكين وليرمنتوف إلى باسترناك وماياكوفسكي ، ومن بلوك ويسينين إلى سيمونوف وتفاردوفسكي ، ومن يفتوشينكو إلى روبرت روجديستفينكي وأندريه فوزنيسينسكي ، ومن أنا أخماتوفا ومارينا تسفيتايفا إلى بيلا أخمادولينا شريكته في الشعر والحياة الزوجية .

والشعراء لدى الشعب الروسي ، ليسوا مجرد شعراء ، بل كانوا ” قادة روحيين “ و ” أمناء الحقيقة “ وكلمة شاعر في اللغة الروسية تكاد ترادف كلمة ” مناضل “ ، والشعب الروسي ، لدى الشعراء ، ليس مجرد قراء بل هو البوصلة المرشدة إلى الحقيقة .

ومن مواطنيه تلك المرأة العاملة منهكة القوى التي أقبلت على يفتوشينكو ونصحته ذات يوم بهذه الحكمة الشعبية البسيطة : ” اكتب الحقيقة، يا بني ، فقط الحقيقة .. ابحث عنها فيك ، وانقلها إلى الشعب وابحث عنها في الشعب وضعها فيك “ .

وقد مارس الرياضة في بداية حياته فكان حارسا للمرمى وعلمته اللعبة أن الأهم ليس أن يتقن اللاعب الهجوم فحسب ، ولكن أن يراقب أيضاً مراقبة يقظة أي حركة من حركات الخصم ، وأن يعرف كيف يحبط حيله ويتكهن بنواياه . وتنبأ الجميع له بمستقبل باهر كحارس مرمى ولا سيما أن زملائه في الملعب قد اصبحوا نجوماً محترفين وكلما التقى بهم يغبطونه لأنه أصبح شاعراً ، وهو بدوره يغبطهم لأنهم صاروا لاعبي كرة قدم ؛ لأن قواعد كرة القدم أبسط من قواعد الأدب ، فعندما يسجل اللاعب هدفاً يظهر للعيان فوراُ الكرة في الشباك ، وكما يقال فالفعل غير قابل للنقاش .

وعلى العكس إذا سجل الشاعر هدفاً فالشيء الوحيد الذي يسمعه هو دوي آلاف الصفارات التي يطلقها بعض الذين ينصبون أنفسهم بأنفسهم والذين يبادرون إلى التصريح بأن القذيفة ليست محكمة ، وأن الكرة مرت جانبية وبالتالي فالعمل لا يستحق مكافأة . والغريب أن أغلب القذائف التي تطيش بعيداً عن المرمى يعتبرها حكام الشعر الرسميون قمة الإبداع .

كلما عاين يفتوشينكو هذه الأحكام الأدبية الجائرة إلا وتأسف على ترك كرة القدم .

وبدأ يعرف طريقه إلى الشهرة كشاعر عندما نشرت صحيفة الرياضة السوفيتية أولى قصائده تحت عنوان ( رياضتان ) عام 1949 بمساعدة نيكولا تاراسوف المسؤل عن أربعة أقسام في الصحيفة في وقت واحد : الشؤون الخارجية ، وشؤون الحزب وكرة القدم والأدب .

وقد قام يفتوشينكو بزيارة باسترناك في منزله عام 1941 وطلب منه قراءة أشعاره ، فقرأ يفتوشينكو عليه قصيدة ” عرس “ المكتوبة عن حفلات الزغاف في سيبيريا عام 1941 فلم تعجبه ، ولكنه عندما قرأ عليه قصيدة ” استهلال انتفض باسترناك كطفل صغير وقفز من فوق مقعده ، يضرب كفاُ بكف ويضحك بمرح .

وعندما انتهى من القراءة أقبل عليه يضمه بين ذراعيه وكانت قصيدة ” العرس “ أقرب إلى قلب يفتوشينكو وأعمق في نظره من قصيدة ” استهلال “ التي كان يعتبرها عملاً سطحياً جداً . ولكنه فهم بعد ذلك أن باسترناك رجل عاطفي ، وسريع التأثر إلى أبعد حد ، تختلف ردود فعله حسب مزاجه في تلك اللحظة ، وعندما قرأ عليه قصيدة ” الوحدة “ فأجهش متنهداً قائلاً : ” إنك تتكلم عني ، عني أنا ، أنا ،.. “ .

وقد كتب يفتوشينكو هذه السيرة برقة الشاعر ، ودقة الناقد ، بأناقة أسلوب القاص والروائي ، ورشاقة وتوضيب المخرج السينمائي ، بحماسة المناضل الثوري وفراسة المواطن الشعبي البسيط وبذوق فني رفيع وإحساس مرهف نابض بذلك الدفء الحميمي والحنان الإنساني الذي يشع من مرح الأطفال وكدح الرجال .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*