الحج والوباء وقبر حواء في مدونات مُلا ودبلوماسي روسي

 

في انطباعاته السردية الممتعة «حديث حاج» يركز المُلّا شاكريان إيشاييف باهتمام بالغ على رحلات مسلمي روسيا وآسيا الوسطى إلى الحجاز، وأسفارهم من أقصى البلدان لأداء شعائر الحج والتبرك ببيت الله الحرام، وما يتعرضون له من تحديات السفر ومخاطره وبلاء الأوبئة الفتاكة، وابتزاز الوكلاء والأدلاء من أبناء بلدهم. ويبدو حانقاً على مواطني روسيا التركستان المقيمين في جدّة وعموم الحجاز، الذين يمارسون شتى أنواع النصب والاحتيال في تعاملهم مع حجاج آسيا الوسطى ورعايا روسيا القيصرية.
ومدينة جدّة في مُدون الحاج إيشاييف «أهم مركز تجاري في الحجاز، تزوره السفن والمراكب من مختلف البلدان»، ويراها «خالية من النباتات تقريباً ما عدا بعض أشجار النخيل»، ويصف عمارة مرفئها؛ «مكلّأ جدّة مشيد بشكل مربع وطرازه المعماري غير متناسق ويفتقد التنوع». ويتفحص بإمعان أحوال أهل الحجاز وأعرافهم وصنائعهم، ويُعرب بجرأة عن تذمره من طبائع غريبة عن أخلاق المجتمع الحجازي المسلم؛ «أخلاق سكان جدة لا تتميز بالعفة والصفاء». ويعبر عن اندهاشه من شغلة «صيد الجراد» الشائعة في بقاع شبه الجزيرة العربية، غير المألوفة في بلاده، واستعمال هذه الفصيلة من الحشرات في طعام أهل البادية. ويُعَرّف المؤلف بنشاطات الممثليات والقنصليات الأوروبية في جدة وخدماتها وعلاقاتها المعقدة بالحكومة التركية والسلطات المحلية والمقيمين الأجانب. ويذكر بلوعة الهجمات القاسية المفاجئة التي تعرضت لها البعثات الدبلوماسية ونهب ممتلكاتها من قبل عُصاة عرب، وما أصاب أُسرته من مأزق إنساني مؤلم أثناء عمليات السطو تلك التي أدت إلى مرض زوجته ووفاتها. وينعت المُلّا إيشاييف السياسة الإسلامية في بلاد الحجاز بالعويصة والمخادعة للغاية. ويلاحظ أن غالبية أثرياء البلاد من أهلها العرب، و« كثرة التجار الهنود والسوريين والفرس ونحو أربعين من آسيا الوسطى وجميعهم يشتغلون بأعمال صغيرة». ويشير إلى تفوق الشركات الإنكليزية الكبير في مجال النقل البحري الأجنبي، واشتغال «النصارى بتجارة الخمور والمزات! وامتلاكهم ورشات ماء الورد الذي يصنع منه عصير الليمون». ويتعقب الدبلوماسي إيشاييف، ببالغ الحرص والدقة وبهاجس مرهف، لغز مرض ابن بلده شاغيماردان إبراهيموف، أول قنصل روسي في جدّة، الذي خدم مصالح بلاده والحجاج بغيرة «وعمل جاهداً للدفاع عن مواطنيه وحماية حقوقهم من هذا الجراد الوكلاء والأدلاء التركستان، الذين يهاجمهم في الحجاز، وساعدهم بالقدر الممكن»، وهلاكه المفاجئ أثناء مناسك فريضة الحج ودفنه قرب قبر حواء «المحاط بمقبرة كبيرة».
«حديث حاج» الذي نُعَرّب بعضاً من صفحاته، نَعدَّهُ وثيقة دينية – سياسية- اقتصادية بالغة الأهمية، ملأى بتوافقات المجتمع الحجازي وعجائبه وطراز حياته العامة وقلاقل قبائله، وتأثير إفرازات استثمار سلطان الدين الإسلامي وفروضه في السياسة والتجارة على أخلاقيات الأهالي وثقافتهم الدينية وأحكامهم القيمية. ويضم، هذا العمل الانطباعي، وصفاً ممتعاً لبيت الله الحرام والمسجد النبوي الشريف، وعبادات المسلمين وشعائرهم، وقوافل الحجاج الوافدة إلى مكة المكرمة من كل فج، والرحلات التجارية الطويلة عبر الصحراء الشاسعة والمجهولة. ويولي اهتماماً بالغاً بديار العرب ومضارب قبائلهم التي تجوس البادية العربية، متنقلة في حركة دائبة، ويشير إلى أحوالها المعيشية وأعرافها وتقاليدها البدوية الراسخة، التي جذبت اهتمام علماء الآثار والإثنوغرافيا والأعراق الأوروبيين. ويُعَرّف بأشراف وحكام مكة وأعيانها وزعماء قبائل وشخصيات حكومية ودينية عربية وتركية، قامت بأدوار مهمة في إدارة إقليم الحجاز وتطويره، وحماية قوافل الحجاج، وتوسيع تجارته الخارجية، وتبادل الوفود الإسلامية والبعثات الدبلوماسية بين هذا الإقليم العربي والبلدان الإسلامية والأوروبية أواخر القرن التاسع عشر.

الدبلوماسي إيشاييف ومدينة جدّة

بدأتُ الخدمة الدبلوماسية في جدّة عام 1895، المدينة المُطلة على ساحل البحر الأحمر، والواقعة في إقليم الحجاز العربي. جدّة مدينة كبيرة، وأهم مركز تجاري في الحجاز. في مرافئها ترسو السفن والمراكب التي تربط أوروبا بشرق أفريقيا وجنوب فارس والهند والشرق الأقصى. وعبر هذه المدينة تمر قوافل جموع الحجاج المسلمين المتجهة إلى مكة، والوافدة على متن السفن والمراكب من مختلف البلدان. ومن جدة ينطلق الحجاج، في رحلات برية، إلى مكة التي تبعد عن جدّة 70 فرسخاً. ولغرض متابعة شؤونهم وحماية مصالحهم أُنشئت في جدّة قنصليات للدول التي بين رعاياها مسلمون. ومن بين هذه البعثات الدبلوماسية قنصلية روسيا التي أخدم فيها.
تقع مدينة جدّة على الشاطئ الصحراوي للبحر الأحمر، وشأنها شأن ضواحيها خالية من النباتات تقريباً، ما عدا بعض أشجار النخيل. مكلّأ جدّة مشيد بشكل مربع وطرازه المعماري غير متناسق ويفتقد التنوع. تتزود مدينة جدّة بمياه الشرب بواسطة مجاري تحت الأرض تسحب المياه من منابع في جبال قريبة. وينسب الناس فضل مد شبكة أنابيب المياه هذه إلى عثمان باشا عمدة مكة السابق.

جَدّة وتجارة الخمور

ويلاحظ زوار جدّة كثرة التجار العرب الأثرياء من أهالي المدينة، ومثلهم التجار الأجانب الذين يشتغلون بتجارة الحبوب والمحاصيل الزراعية الضرورية. وإلى هنا تجلب الحنطة وبضائع منوعة أخرى، ومن ثم يجري توزيعها عبر القوافل على جميع مدن إقليم الحجاز وبينها مكة والمدينة وباقي مناطق البلاد.
في جدّة تملك شركات النقل البحري الأجنبية وكالات وممثليات، تدير أعمال تجارة النقل البحري بين أوروبا والبلاد. وهنا يتفوق الإنكليز بنشاطهم الكبير في هذا المجال، عموماً جدّة مدينة تجارية وصناعية مكتظة بالسكان. سوق جدّة يقع وسط المدينة. وغالبية تجارها من أهلها العرب. ويلاحظ كثرة التجار الهنود والسوريين والفرس ونحو أربعين من آسيا الوسطى وجميعهم يشتغلون بأعمال تجارية صغيرة بينها، حوانيت وأكشاك على الطرقات وقوارب راسية. أما التجار النصارى فهم قلة، ويعملون في تجارة الخمور والمزات، ويملكون ورشات ماء الورد الذي يصنع منه عصير الليمون.

النساء العربيات وصيد الجراد

ويمكن أن نذكر من حرف السكان المحليين صناعة الفخار؛ المراجل والجرات ومواد خزفية. وكذلك ينتجون السلال والأقفاص من سعف النخيل. في هذه الحرفة تعمل النساء العربيات. ويمارس الكثير من السكان مهنة صيد الأسماك والغوص لاستخراج اللؤلؤ والمحار والمرجان الأسود. ولهذا العمل يجهز الأغنياء مراكب خاصة تبحر بإشرف رجال ثُقات وأعيان الضياع، الذين يرسلون عبيدهم المقيمين في كل الحجاز، رغم أن العبودية في تركيا ملغاة. والكثير من السكان يمارسون أيضا صيد الجراد الذي يستعمل في الأكل. هذه الحرفة الغربية تتم هكذا؛ في الأماكن التي يتجمع فيها الجراد بكميات كثيرة، ينصب أرباب العمل أعمدة من خشب الصنوبر ويقومون في الليل بحرقها، عندها يطير الجراد على النار فتحترق أجنحته فيتساقط حول النيران. الجراد الذي يتم صيده بهذه الوسيلة يُقلّى على نار خفيفة ويأكل بدون أي توابل. المعروف عن السكان المحليين أنّهم صيادون ومولعون كثيراً بهذه الأكلة. في السوق يباع فونت الجراد، (نحو 450 غراماً) بين 10-12 كوبيك (1% من الروبل).

قبر حواء وقنصل روسيا

يُدير مدينة جدّة إدارياً وعسكرياً نائب عمدة مكة، «قائممقام». في جدّة حامية تركية قوامها 500 عسكري وعدة مدافع. وخصصت ثكنتان لإقامة العسكر؛ واحدة على ساحل البحر، قرب المكان الذي ترسو فيه سفن نقل الحجاج، والأخرى قرب قبر حواء. لا توجد في مدينة جدّة أماكن سياحية مميزة، باستثناء قبر حواء، الواقع خارج المدينة ووسط مقبرة كبيرة. قبر أم البشر طوله 42 متراً، وفوقه ثُبت شاهد مرمري نُقشت عليه كتابة عربية، وبجانبه تنمو أشجار النخيل، وعند أطرافه نبتت شجيرات ما. فوق وسط القبر شُيدت بنايتان تحت سقف واحد؛ في الأولى مسجد، وفي الأُخرى القبر، الذي يؤمّه الحجاج. عند المدخل من الخارج يوجد حوض في خزان كبير، يُذَكْر ببئر خاصة تُسقى منها الخيول؛ وفيها تصب المياه وتعرف بزمزم حواء. هنا يسكن شيوخ كثيرون، والأكثر منهم نساء وأطفال فقراء؛ يجمعون الصدقات من الحجاج الوافدين لزيارة القبر والصلاة في المسجد. قبر حواء الواقع في مدينة جدّة محاط، كما ورد أعلاه، بمقبرة كبيرة دُفن فيها أول قنصل روسي، شاغيماردان إبراهيموف الذي هلك، عام 1892، بوباء الكوليرا في السنة الأولى من بداية عمله. على قبره نُصب شاهد من الحجر مع كتابة باللغتين الروسية والعربية وضعها خليفته القنصل ليفيتسكي، ولأنَّ المرحوم إبراهيموف كان شخصية معروفة في تركستان وعموم آسيا الوسطى، حيث أمضى فترة طويلة في الخدمة. لذا أرى من الأهمية هنا تدوين تلك المعلومات التي جمعتها من شخصيات عديدة تسلط الضوء على حيثيات وفاته، وتعكس أحوال الحجاج ووضعهم العام وقت تفشي الأوبئة. إذ أنّهم لم يتلقوا حينها أي إسعافات بسبب عدم صلاحية الطريق بين جدة ومكة، وقلة العناية بالمرضى من جانب العرب المحليين والحكومة التركية.

الكوليرا وفرار الطبيب المصري

إبراهيموف كمسلم يسكن قرب مكة، مُلزم بأن يؤدي فريضة الحج في السنة الأولى. لذا يجب عليه أن يشد الرحال إلى مكة والمدينة لأجل السجود في العتبات الإسلامية المقدسة. ولسوء حظه كان وباء الكوليرا، عام ذاك، متفشياً في مكة، وخطره المميت يتفاقم يوم عرفة الذي يؤدي فيه الحجّاج أهم أركان وشعائر فريضة الحج إذ يدلفون يومها في وادي عرفة. إبراهيموف غير المحظوظ وبشدة من هذا الوضع، وفوراً غادر عرفة متجهاً، وبلا توقف، إلى مكة. وهنا مَرِضتْ زوجته، إما بداء الكوليرا أو أُصيبت بإرهاق شديد من عبء الجلوس على ظهر الدابة والعدو السريع من عرفة إلى مكة. في هذه المدينة ترك إبراهيموف زوجته وتوجه إلى جدّة يرافقه خادمان وتركماني وطبيب مصري أيضا من الإدارة المصرية. الكل كان وقت المغادرة معافى، ورحلوا مع القافلة على ظهور الدواب؛ ومع أول مقهى توقفوا للاستراحة: أكلوا وشربوا القهوة والشاي. وما أن قطعوا بضع مئات من الأمتار حتى مَرِضَ إبراهيموف، إذ شعر فجاة باضطراب معوي صاحبه نزف حاد من الأنف. حينها أنزله الخادمان من السرج ووضعوه على الأرض، بدأ الطبيب بدلكه وعرض عليه تناول دواء ما، غير أن المريض رفض ذلك تماماً. بعد أن شعر المريض بضعف شديد أمر أن يضعوه على «تختفان»، مقعد مستو مصنوع من عارضتين خشبيتين توضعان على بغلين أو جملين؛ وتربط المسافة بينهما بحبل، شبيه بما يتم عمله في الأسرة التي تصنع في مدينة سراتوف. في «التختفان» يمكن الجلوس أو التمدد وقت الحركة، باستخدام الوضع المريح. مددوا المريض وواصلوا الرحيل، بعد فترة أمر الطبيب أحد الخدم بمعاينة المريض وتلمس جسده. وحينها قال الخادم إن جسد المريض أصبح بارداً، وفوراً الطبيب انطلق إلى الأمام مسرعاً وقال؛ سأكون بانتظاركم في المقهى المقبل، لكن لم يره أحد منهم بعد ذلك؛ تبين أنّهُ سافر إلى جدّة، تاركاً المريض يعاني سكرات الموت ويرجو رحمة القدر. توفي إبراهيموف قبل أن يصل إلى محطة هدية، الواقعة في منتصف الطريق بين مكة وجدّة. ويومها نقل جثمان المرحوم إلى جدّة، ووري الثرى قرب قبر حواء. وتُشاع أيضا رواية أخرى عن سبب وفاة إبراهيموف، غير أنّي لا أرغب في سردها هنا، إذ لا أملك أدلة تثبت صحتها.

السياسة المُخادعة والإثم المُشين

وإذ أن إبراهيموف، القنصل لاحقاً، كما يُروى، كان يتعامل بغيرة مع التزاماته ويُدير الأمور بحيوية، لذا يتذكره وبحنق إلى الآن مختلف الأدلاء والوكلاء، وبينهم تركمان من بلادنا يسكنون في جدة يجمعون أموال الحجاج البسطاء كأمانات فترة سفرهم إلى مكة ليستحوذوا عليها لاحقاً. كل هؤلاء الأنذال وغيرهم يعيشون على استغلال الحجاج واختلاس أموالهم بكل وسائل النصب والاحتيال. وإبراهيموف كقنصل روسيا عمل جاهداً للدفاع عن مواطنيه وحماية حقوقهم من هذا الجراد الذي يهاجمهم في الحجاز، وساعدهم بالقدر الممكن.
وهنا لابُدَّ من التنويه؛ رغم أن السياسة الإسلامية في الحجاز تبدو في الظاهر بسيطة وبريئة، غير أنّها في حقيقة الأمر عويصة ومخادعة للغاية. قنصليتنا في جدة – دائرة حديثة النشوء تماماً وغير مُؤَمَّنة بتاتاً في ظل هذه السياسة، وهذا ما توضَّحَ إثناء هجوم العرب على قنصليات الدول المسيحية في جدة عام 1895، ولذا ينبغي على القنصل الأوروبي أن يكون حذراً للغاية…
أخلاق سكان جدة لا تتميز بالعفة والصفاء، وما ينبغي تسجيله هنا وجود العبودية والطبيعة التجارية للمدينة، الملأى بالأجانب، الوافدين من جميع أنحاء العالم تقريباً. هنا، وكما هو في عموم الحجاز نلاحظ ظاهرة «…» ، التي تُعد عند الأوروبيين عقاباً جنائياً، وليس معروفاً، مَنْ اقتبس مِمَنْ هذا الإثم المُشين، التركستان من العرب، أم يا تُرى العرب من التركستان؟ قُرب جَدّة توجد أيضا أوكار مختلفة، بلا رقابة ووقاية صحية من جانب المسؤولين المحليين.

ناظم مجيد حمود – باحث وأُستاذ جامعي ـ روسيا

نقلاً عن القدس العربى .

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*