الحفرة أم الأساس؟… ليس هكذا يترجم أندريه بلاتونوف

الترجمة إبداع وسطي، تقع بين العلم والفن، لكونها تعتمد على قواعد معترف بها ومنهج يشكل الدليل والمرشد، فضلا عن أنها كفن تعتمد إلى حد كبير على ذائقة المترجم ومواهبه كفنان ومهاراته اللغوية وضلوعه في اللغتين، وبالدرجة الأولى حسه بطبيعة وظلالات اللغتين التي ينقل منها ويجسد العمل المترجم لها. ومن نافل القول الكلام اليوم عن أن الترجمة لن تكون حرفية ولا قاموسية بنقل كلمة بكلمة، وأن هناك متسعا وفضاء للاجتهاد والتعبير، بشرط عدم خيانة العمل المترجم، لكن هذا لا يمنح الحق للمترجم بالتعامل بتعسف مع النص، رغم أن بعض الثقاة وأساطين الكلمة يحبذون التضحية بالبلاغة وشاعرية ورقة الكلمة من أجل الحفاظ على المعنى الذي جهد الكاتب/ الأديب في توصيله للمتلقي.

من هذه الزاوية تبدو ترجمة واحدة من أهم روايات الأديب الروسي (السوفييتي) أندريه بلاتونوف (1899 ـ 1951) للعربية «حفرة الأساس» غير مكافئة تماما للنص وعجزت عن الاقتراب أكثر من عالم الكاتب.

وفي أحد الجوانب تتجاوزه، ما يجعل من المستحيل على القارئ العربي استلهام النص وأبعاده والحكم عليه بدقة، إذا فهمنا أن العمل الأدبي بناء يتشكل من عدة طبقات متلاحمة ومؤثرة بعضها ببعضها الآخر وغير قابلة للانفصال. أي التلاحم العضوي لمكونات الشكل والمضمون. وبالدرجة الأولى نقل الأسلوب الذي هو في نهاية المطاف إحالة للواقع الذي سعى بلاتونوف لتجسيده، والقيم الفكرية التي اختبأت وراء كواليس النص.

فعلا أن بلاتونوف كروائي غير سهل. وتنطوي نصوصه على مستويات وأبعاد متعددة، يوصلها للمتلقي بلغته الروائية الخاصة. أؤكد بلغته الخاصة. فهو يتجاوز اللغة المتعارف عليها ويخترق معاييرها أحيانا ويطعن بمقاييس النحو وتركيبة الجمل، ربما لتدمير وهم عقلانية العالم ويوظف لذلك أيضا طرائق السرد والأسلوب للكشف عن أبعاد الشخصية ويخلق مركبات غريبه على سمع حامل اللغة الروسية، بهذا يخلق بلاتونوف الدهشة أو بالأحرى الصدمة الفنية لدى قارئه، الذي يروح يكد مع النص لإنعاشه وإحيائه ويمنحه فكره وعقله للوصول إلى التأويل للتمتع بالنص وسبر أغواره.

إن ترجمة مثل هذه الأعمال تتطلب دراسة لغة وقاموس بلاتونوف بدقه قبل الشروع بترجمة عمله. وأعتقد أن هذا شرطا وواجبا على كل مترجم لعمل أدبي. وفي اللغة الروسية دراسات لا تَعد ولا تحصى وأطروحات كثيرة مكرسة حصرا للغة بلاتوف «الغرائبية» منذ أن أتيح نشر أعماله. ويوظف بلاتونوف حتى أسماء شخوص روايته للإفصاح عن المضمون. ولا تعتمد الترجمة عنوان الرواية بدقة ما قد يلقي الضباب أمام فهم القارئ العربي لأبعاد الرواية ومغزاها، فهي تضع لها عنوان «الحفرة» وفي الحقيقة أن عنوانها الأصلي الذي تتجاهله الترجمة، ينطوي على دلالات فكرية ويشكل دليلا للقارئ لسبر أغوارها الأيديولوجية. وبترجمة سليمة يكون «حفرة الأساس» أو «الأساس» (المترجم يستخدم بالنص هذا التركيب). للعلم أن هناك كلمة بالروسية خاصة بالحفرة حصرا «ياما» بينما عنوان رواية بلاتونوف هو «كوتلَوفان» «حفرة الأساس» للمبنى. وهو عنوان مجازي يوحي به بلاتونوف إلى «مبنى» النظام الاشتراكي/ الشيوعي. ذلك المبنى الذي أريد له أن يكون مجمعا سكنيا لبروليتاريا المدينة القريبة، وأيديولوجيا بإحياءات بلاتونوف للبرولتياريا الأممية.

«حجر الأساس» الذي لم يتم استكمال عليه (في الرواية والواقع) المبنى المنشود. وعلى خلفية أعمال حفر الأساس يصور بلاتونوف ضحالة القوى التي تنهض بالبناء، وعدم كفاءتها لبناء العالم الجديد، تلك القوى المطحونة تاريخيا الفقيرة روحيا وثقافيا، التي تؤدي عملها بدافع الخوف والتسخير، وتعيش في ظروف غير إنسانية، ولا تمتلك شيئا من مقدرات الحياة الكريمة، وتقودها نخبه غير نزيهة تسعى لضمان وضعها وأماكنها الدافئة، والسعي نحو مناصب جديد بطرق ملتوية وانتهازية، لذلك فإن هذه القوى المتسلقة التي تتحين الظرف التاريخي دون إدراكه ووعيه، تتحدث عن اشتراكية مبتذلة وفضة وتمارس باسمها سلطتها. على خلفية ذلك العالم السوداوي تظهر الطفلة ناستيا (روسيا الجديدة)، التي تحتضنها البروليتاريا، ولكنها تموت على أيديها وتدفن هناك في «حفرة الأساس».

إن الصور الفنية التي يرسمها بلاتونوف بلغته المتألقة والمتفجرة عن انطلاق عملية التعاونيات الزراعية (الكلخوزات والسفخوزات) تكشف عن الأبعاد المأساوية لهذه العملية التي اغتصبت بصورة فظة الممتلكات الشخصية، حيث جرى تأميم تلك الممتلكات دون قانون ولا تعويض، ليسحق شرائح اجتماعية بطرق الحقد والانتقام والتشفي، وليس الانتقال من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى بطرق حضرية وسلمية.

إن بلاتونوف مثل شولوخوف في «الدون الهادئ» وباسترناك في «دكتور زيفاغو» وغيرهما الكثير ومن بينهم سولجينيستين، يصورون بحيوية كيف سحقت طاحونة ثورة اكتوبر، كما يقال، الأخضر واليابس في طريقها، ونشعر من أعمالهم بالأنين اللامنقطع لملايين البشر الذين راحوا ضحية لشعارات بناء العالم الجديد، الذي ظهر لحد الآن بأنه حلم طوباوي لا يمكن تحقيقه على حساب الآلام ودموع وآلام الابرياء. وضمن بلاتونوف روايته أبعادا فلسفية بعيدة المدى ورؤية في سبل بناء عالم جديد للإنسانية.

وإضافة إلى ذلك تغيير الترجمة لكلمات الروائي الدلالية بكلمات عمومية مثلا، ترجمة «العضو النشيط» المفوض لبناء التعاونية الزراعية بـ«المناضل» وكوخ المكتبة بالمكتبة العامة، والمعدات الجامدة بـ«المعدات المتروكة،» والممل من رؤية المنظر «للفارس المتحذلق» إلى «العطف على الجواد» ويغير بلفظ بعض أسماء الشخصيات رغم رمزيتها (تشيكيلين / شيكيلين) ويضيف مزوقات لفظيه من عندياته ويستخدم تراكيب عربية كيلشيهيه تخطاها حتى السرد العربي الحديث ولا تتناسب وروح لغة الكاتب مثل «أكل الدهر وشرب» واستعمالا خاطئا لبعض كلمات العربية مثل «شنف آذانه» للتنصت العادي.. ومنذ الفقرة الأولى يضعنا المترجم امام عالم يختلف لحد ما عن العالم الذي سعى لخلقه بلاتونوف في روايته الرائعة.

بيد أن كل تلك الملاحظات لا تقلل بأي حال من الأحوال من أهمية الجهد الكبير للمترجم وإضافته الجديدة المميزة للمكتبة العربية التي ستحتل مكانتها المناسبة.

نقلاً عن : القدس العربى

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*