الدور الروسي في “التسوية السلمية للأزمة السورية خلال العام 2019 “ضمن التقرير السنوي الروسي الأول 2020

قامت الأستاذة نها متولي باحثة في العلاقات الدولية بعمل بحث عن الدور الروسي في التسوية السلمية للأزمة السورية خلال العام 2019 ضمن التقرير السنوي الروسي الأول عام 2020 من إصدارات “المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم” بالتعاون مع مركز “الحوار” للدراسات السياسية والإعلامية.

أشارت الأستاذة “نها متولي” باحثة في العلاقات الدولية، أنه في خضم حالة الضباب والتشويش التي تسيطر على الأزمة السورية في منطقة الشرق الأوسط لاسيما في ظل التحالفات المتشابكة وجداول الأعمال المتضاربة والمصالح المتعارضة والأهداف الجيوسياسية المتداخلة للقوى الإقليمية والدولية، علاوة على الانتشار الكثيف للأسلحة والصواريخ الكاسرة للتوازن في المنطقة التي أثرت بشكل كبير في إعادة تشكيل التحالفات الدولية وإعادة ترتيب التوازنات الاقليمية والدولية الأمر الذي من شأنه جر المنطقة برمتها لحرب طاحنة، لذا كان لابد من التوجه الروسي نحو الوسائل السلمية والدبلوماسية لإعداد نهاية للحرب الأهلية  في سوريا القائمة منذ اندلاع الثورة السورية في مارس 2011 نتيجة الانقسام الشعبي الحاد الذي أدى إلى شيوع حالة من الفوضى العارمة في سوريا وتحولها لساحة حرب بالوكالة عن العديد من القوى الإقليمية والدولية وملاذا آمنا للجماعات الراديكالية والفصائل الإرهابية على اختلاف جنسياتها وانتماءاتها الفكرية والعقائدية التي هددت بانهيار النظام السياسي السوري بمؤسساته الحكومية وهدم لبنيته التحتية وخراب الكثير من المرافق الحيوية والمعالم الأثرية ناهيك عن الخسائر البشرية الفادحة التي أودت بحياة مئات الآلاف من السوريين وغيرهم ممن اشترك في غمار الحرب ونزوح و تهجير الملايين من السوريين لشتى دول العالم هروبا من ويلات الحرب وحفاظا على أرواحهم .

مع مطلع عام 2019 أصبحت روسيا صاحبة القرار في صنع وصياغة مستقبل الأزمة السورية، إذ جاء قرار الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بسحب قواته من سوريا في التاسع عشر من ديسمبر 2018 بمثابة اعترافًا ضمنيا بتخليه كليًا عن مسؤولية إدارة الأزمة السورية وإنهاء حالة الحرب القائمة على أراضيها، علاوة على غياب الولايات المتحدة عن المسار السياسي الروسي بدءاً من مباحثات أستانا التاسعة في 15 مايو 2018،  لاسيما بعد أن هيمنت قضية الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي الإيراني على المباحثات وذلك بالتزامن مع الهيمنة الروسية على الملف السوري، كما أكدت مصادر غربية في وقت سابق أنّ الولايات المتحدة الأمريكية لن تحضر الاجتماع سوى بصفة مراقب غير رسمي ولن تشارك فيه على أي مستوى آخر، مرجعة ذلك لرفض واشنطن أن تكون محادثات أستانا بديلًا عن مسار جنيف الذي ترعاه الأمم المتحدة .

الأمر الذي يوحي بتوجيه رسالة للأطراف الضامنة بما فيهم إيران التي ترتبط معها بعلاقات عدائية بأن تراعي مصالح الولايات المتحدة والتي تهدد باستطاعتها القيام بتعطيل قرارات أو مقررات هذه المباحثات، في حين علق بعض الأطراف بأنه لا أهمية للحضور الأمريكي في ظل حضور الدول الثلاث الضامنة والأطراف السورية واتفاقهم على مساراً للحل السياسي وفقاً للقرار الأممي 2254،  الأمر الذي يثبت للعالم تفوق و تفرد روسيا – الحليف التاريخي و الاستراتيجي لسوريا – في قدرتها على إدارة الأزمة السورية بهدف التوصل لاتفاق سياسي شامل بين الأطراف السورية المتحاربة والرعاة الخارجيين بما يحقق الاستقرار السياسي والإصلاح الدستوري ومحاربة الإرهاب وإعادة إعمار البلاد .

   كما شهد عام 2019 محاولات روسية داعمة لاستعادة سوريا لمقعدها في جامعة الدول العربية وهو ما أكده البيان الصادر عن الخارجية الروسية عن المحادثات مع الأسد في جولة أستانا الثانية عشر التي عقدت في أبريل 2019 عن أهمية إعادة بناء سوريا و تطبيع علاقاتها مع الدول العربية من خلال انخراطها في العملية السياسية لاستعادة مقعدها في الجامعة العربية،  حيث يمثل الحل السياسي المدخل الرئيسي لتطبيع العلاقات مع الدول العربية، اذ تشترط غالبية الدول انخراط سوريا في عملية سياسية ذات مصداقية حتى تشرع في محادثات حول المساهمة في إعادة إعمار سوريا و بالفعل بادرت كل من الإمارات والبحرين بفتح سفاراتها في دمشق،  وهو ما يعد مؤشرًا إيجابيًا علي سير عملية التسوية السلمية و السياسية بما يحقق حالة من الاستقرار الأمني والسياسي في سوريا ويبشر بأن الجهود الدبلوماسية الروسية ذات مصداقية وأنها قد آتت ثمارها بشكل ملحوظ ليس فقط على مستوى الساحة السورية بل أيضا على مستوى المنطقة العربية.

كما يمثل عام 2019 مرحلة جديدة تمثلت في إعادة ترتيب لتوازنات القوى الإقليمية والدولية وتحولات كبيرة في تشكيل التحالفات في المنطقة لاسيما في ظل أجواء التصعيد السياسي والعسكري التي تسيطر على المناخ السوري كقيام الرئيس الأمريكي دونالد ترامب خلال استقباله لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في 25 مارس2019 بإصدار مرسومًا يعترف فيه بتبعية هضبة الجولان السورية المحتلة منذ عام 1967 للسيادة الإسرائيلية متجاوزًا بذلك كل الأعراف والقوانين الدولية، وما تبع ذلك من تغيير في الصيغة التي كان يُشار بها عادة لهضبة الجولان في التقارير الصادرة عن حقوق الإنسان في الخارجية الأمريكية من “أرض محتلة من اسرائيل” إلى “مرتفعات تسيطر عليها اسرائيل”.

أولاً-دوافع التوجه الروسي نحو إدارة الأزمة السورية بالتسوية السلمية:

استطاعت روسيا العودة إلى المشهد العالمي وأثبتت وجودها كقوة عالمية، حيث اتجهت السياسة الخارجية الروسية مؤخراً نحو البحث عن حزم أمنية لها في دول العالم، وهو ما بدا واضحا ً من خلال توجهات الكرملين منذ أوائل عام 2010 لا سيما بعد تجاهل واشنطن لمطالبها حول عملية توسيع حلف الأطلسي (الناتو)، مما استدعى قيام روسيا باتخاذ إجراءات دفاعية عنها لتأمين مصالح أمنها القومي وهو ما يترجم تدخلها العسكري في أوكرانيا لاستعادة شبه جزيرة القرم عام 2014.

واستمرت السياسة الخارجية الروسية على هذا النمط النشط واتجهت أنظارها نحو الانخراط في الشرق الأوسط لإدارة الأزمة السورية والتوصل إلى تسوية سلمية شاملة ودائمة بين جميع الأطراف المتصارعة على الساحة السورية.

على الرغم من أن التدخل الروسي في سوريا كان محاطًا بالكثير من المحاذير والمخاوف الأمنية إلا أن روسيا كانت مدركة تمامًا للأهداف الجيوسياسية المترتبة على هذا التدخل الأمر الذي يسلط الضوء على أهداف السياسة الخارجية الروسية في سوريا وضرورة أن يكون لها رأي حاسم في إدارة الأزمة السورية، وما لذلك من تحقيق لمصالح وأهداف السياسة الخارجية الروسية الأساسية في المنطقة ككل والتي شكلت دوافع التوجه الروسي نحو التدخل لإدارة وتسوية الأزمة السورية لإنهاء حالة الحرب بالطرق السلمية والتي يمكن استعراضها على النحو الآتي :

1ـ سعت روسيا من خلال التدخل العسكري في سوريا عام 2015 إلى إيجاد حزامًا أمنيًا لها في منطقة شرق المتوسط والشرق الأوسط، حيث تشكل سوريا أحد أهم المواقع الجيوسياسية في المنطقة فهي الوجه الآخر لروسيا المطل على البحر المتوسط من خلال قواعدها البحرية و الجوية في اللاذقية وطرطوس، والتي تسمح لها بحماية أمن هذه الأصول والدفاع عنها وتوسعتها لكونها الحضور الوحيد والكبير لقوة روسيا في شرق المتوسط  والشرق الأوسط، علاوة على تخوف موسكو من حدوث تغييرات سريعة وعنيفة مثل تلك التي حدثت عقب ثورات الربيع العربي عام 2011 لذلك تخشى حدوث موجة من الثورات الشعبية التي قد تنجم عنها تغييرات عميقة من شأنها أن تؤثر على مصالحها الجيوسياسية، ولهذا تتجلى رغبة روسيا في تعزيز وجودها عبر القاعدة البحرية في طرطوس والقاعدة الجوية العسكرية في حميميم المركز الاستراتيجي للتدخل العسكري الروسي في الحرب الأهلية السورية

2- تشكل سوريا أحد أسواق الأسلحة الروسية التي وفرت ساحة تدريب مناسبة للقوات العسكرية الروسية ومساحة لاختبار العديد من أنظمة الأسلحة الروسية الحديثة التي روجت لزيادة كمية المبيعات للأسلحة محلية الصنع والتي ستتمكن من خلالها من تحدي الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة.

3 ـ الصعود الروسي على ساحة النظام الدولي وإيجاد مكانة لا يستهان بها في نظام عالمي متعدد الأقطاب و إيصال الرؤية الروسية للنظام العالمي في رغبتها في أن تكون جزءا ً من التحالف الدولي لإنهاء الصراع في المنطقة ، حيث تشبثت روسيا بالاضطراب في الشرق الأوسط و سلطت الضوء على قصور و فشل السياسيات الغربية في إدارة الأزمات في منطقة الشرق الأوسط بما فيها الأزمة السورية و عدم جدارتها بالثقة من أجل تقديم نفسها للقادة التقليديين في الشرق الأوسط على هيئة البديل الجدير بالثقة   وذلك لمواجهة النفوذ الأمريكي على اعتبار أن الهيمنة الأمريكية تهدد مصالحها الأمنية في المنطقة، وهو ما يوضح ملامح النظام الدولي القائم حاليا الذي يتميز بصعود القوى التعديلية أو المتحدية على غرار الصين و روسيا و التي عرفها كل من “أورغانسكي وكوغلر” بأنها الدول التي تعلن عن عدم رضاها عن مكانتها في النظام الدولي و تسعى لإيجاد مكانا جديدا لها في المجتمع الدولي بحيث يتناسب مع قوتها وتسعى إلى تغيير التوازن القائم لصالحها كلما وجدت فرصا أنسب بالشكل الذي تفوق فيه الفوائد عن التكاليف.

4 ـ استعادة النفوذ الروسي في الشرق الأوسط وتحويل تركيز المجتمع الدولي من دورها المحرض على الصراع في الحملة العالمية على أوكرانيا إلى دورها الجديد في سوريا بصفتها راعيا ً وضامنا ً للتسوية السياسية والسلمية للأزمة السورية علاوة على أن التدخل الروسي قد سلط الضوء على الصراع في سوريا بصورة أكبر وما لهذا من ضمان لمشاركة روسيا في أية تسوية سلمية لإنهاء الصراع في منطقة الشرق الأوسط.

5 ـ رغبة روسيا في الحفاظ على عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى من خلال تسليط الضوء على استراتيجية روسيا المعلنة عن حماية الحكومة السورية الشرعية المتمثلة في نظام الأسد من خلال التدخل الروسي لإدارة الأزمة السورية، على النقيض من أهداف الدول الغربية التي تدعم النظام وتسعى إلى خلع النظام بشكل غير شرعي  والتي تبرر التدخل الأجنبي بدافع حماية حقوق الإنسان وبهذا نجد أن سوريا قد ساعدت على تعميق التحرك الروسي فيها وحدّت من التحرك الغربي.

6ـ يمثل التدخل الروسي في الأزمة السورية وسيلة لوقف الإرهاب بصفتها قائدا ً مسؤولا ً عن محاربة الإرهاب بما يمهد الدولة السورية للتوصل إلى تسوية سلمية شاملة وعادلة، ثمة تخوف أمني طويل الأجل لدى القادة الروسيون من عودة المقاتلين الأجانب، إذ تم نقل 3200 من العناصر ذوي التابعية الروسية الذين سافروا إلى سوريا والعراق منذ عام 2014 ، والذين تحولوا إلى الراديكالية بسبب دعاية الدولة الإسلامية مما يزيد من قلق روسيا من التطرف وانتشار الإرهاب الإسلامي في روسيا والدول المجاورة لها.

7- سعت روسيا من خلال تواجدها في سوريا إلى حماية الأقلية المسيحية المتضائلة في سوريا وفي الشرق الأوسط عموما على اعتبار أنها مصلحة جيوسياسية روسية جديدة، حيث أن السياسة الروسية الحالية باتت تمتلك بعدا أيديولوجيا بعد أن أصبحت الكنيسة الأرثوذكسية حليفا وشريكا سياسيا رئيسيا للكرملين.

ثانيًا: الجهود الدبلوماسية الروسية لتسوية الأزمة السورية خلال العام 2019

تعاظم الحضور والدور الروسي على الساحة السورية وذلك لتفردها بقيادة مسار التسوية السياسية والسلمية للأزمة السورية خلال عام 2019، حيث جرت جميع مباحثات وترتيبات التسوية السلمية مع جميع الأطراف والقوى الفاعلة على الساحة السورية تحت المظلة الروسية، كما يمثل مسار التسوية السلمية للأزمة السورية المسار الأكثر استعصاء على الحل وذلك لتعدد القوى والأطراف الفاعلة فيه ولتسارع الأحداث والتطورات الديناميكية التي تزيد من تعقيد ترتيبات التسوية السلمية للأزمة السورية.

إذ تسعى روسيا جاهدة على مختلف الجبهات المتصارعة في الأزمة السورية من أجل التوصل إلى تسوية سلمية شاملة ودائمة تحقق الاستقرار السياسي للدولة السورية وتصل بها في النهاية إلى تحقيق الهدف الأساسي من التسوية السلمية وهو خروج كافة القوات الأجنبية من الأراضي السورية والحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي السورية وتأمين عودة اللاجئين السوريين إلى أراضيهم.

أولاً: الدور الروسي لتسوية الأزمة السورية على المحور السوري _:

  • الاتفاق على تشكيل اللجنة الدستورية السورية:

كان للدور الروسي أكبر الأثر في تقريب وجهات النظر السورية – السورية إذ استطاعت بأن تجمع بين الحكومة السورية بقيادة نظام الأسد مع قادة المعارضة السورية على طاولة مفاوضات واحدة و توصلت إلى جانب شريكيها الرئيسيين في إطار صيغة أستانا ( تركيا وإيران ) والمبعوث الأممي الخاص إلى سوريا إلى تشكيل لجنة دستورية مشتركة بين الأطراف السورية تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة للإشراف على المرحلة المقبلة للتسوية السياسية في سوريا و ذلك في 23 من أيلول 2019 حيث وافق ممثلو الدول الثلاث على قوائم المشاركين في اللجنة من الحكومة السورية و من المعارضة.

على أن يكون للجنة الدستورية رئيسان مشتركان أحدهما يمثل الحكومة السورية و الآخر يمثل المعارضة و يعملان بالتوافق ،كما تضم أطياف المجتمع الثلاثة ويمثلهم النظام والمعارضة والمجتمع المدني، بحيث يقوم المبعوث الدولي إلى سوريا بتيسير عمل اللجنة و مساعدة الرئيسين و تقريب وجهات نظر الأعضاء والتي تهدف إلى مراجعة الدستور السوري 2012 ووضع تعديلات دستورية أو أن تقوم بصياغة دستور جديد للخروج من الأزمة من خلال الإصلاح الدستوري وهو ما عبر عنه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو كوتيرس قائلاً : أنا أؤمن أن لجنة صياغة الدستور هي البداية لمسار سياسي سلمي يتوافق مع القرار 2254 ويلبي الحاجات المشروعة للسوريين و كذلك هو انعكاس لسيادة الدولة و وحدتها “.

سعت روسيا جاهدة إلى تشكيل اللجنة الدستورية السورية و ذلك لضمان تسوية سياسية مستدامة في سوريا على أساس قرار مجلس الأمن الدولي 2254 و لتقديم الدعم اللازم لها لإعادة إعمار سوريا في فترة ما بعد الصراع، وأخيرا وبعد تشكيل هذه اللجنة الدستورية التي ستترجم آمال السلام والاستقرار السياسي السوري على أرض الواقع في سوريا وهو ما صرح عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن انتهاء الأعمال القتالية واسعة النطاق في سوريا و أنه لابد من العمل على حل الأزمة السورية عن طريق التسوية السياسية لا سيما بعد إعلان الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرس عن التشكيل النهائي للجنة الدستورية السورية بتاريخ 30 سبتمبر 2019 و جاهزيتها للاجتماع في الأسابيع اللاحقة للإعلان و هو ما عبر عنه الرئيس فلاديمير بوتين قائلا ًخلال الجلسة العامة لمنتدى فالداي للحوار في الثالث من أكتوبر2019، ” نحن وشركاؤنا الإيرانيون والأتراك بذلنا جهوداً كبيرة لتشكيلها أخيرا و نتطلع الآن إلى بداية هذه العملية “، عمل هذه اللجنة الدستورية في جنيف تحت رعاية الأمم المتحدة ، وهو ما أكده رئيس الخارجية الروسي سيرجي لافروف خلال الاجتماع السنوي السادس عشر لمنتدى ” فالداي” في سوتشي قائلا ً: أمامنا عمل صعب للغاية أكثر تعقيدا ًمما كان عليه من قبل (بعد تشكيل اللجنة الدستورية في الجمهورية العربية السورية) و الآن حول طاولة مفاوضات واحدة سيتعين على المعارضة و الحكومة بمشاركة وفد من المجتمع المدني الاتفاق على الإصلاح الدستوري أي يجب أن تكون أساس الانتخابات المقبلة في سوريا” وأضاف : ” في هذه الحالة ستكون جميع البطاقات على الطاولة و آمل أن تسهل الأمم المتحدة هذه العملية بشكل محايد ، ولن تكون ثلاثية أستانا ( روسيا و إيران و تركيا ) في الجانب أيضاً، وسنفعل كل شيء حتى يتفق  السوريون بأنفسهم دون أي تدخل خارجي”  ، الأمر الذي يشير إلى الآمال المعقودة على عمل هذه اللجنة الدستورية وأنها ستكون بمثابة بداية الطريق السياسي و السلمي لإيجاد الحلول التي ستلبي رغبات كافة أطياف المجتمع السوري.

الدور الروسي في محافظة إدلب آخر معاقل المعارضة السورية:

أثمرت الجهود الدبلوماسية الروسية في تهدئة الوضع في محافظة إدلب آخر معاقل المعارضة السورية بشكل كبير إذ استطاعت روسيا من خلال جولات مباحثات أستانا الثانية عشر في أبريل والثالثة عشر في أغسطس من عام 2019 والتي أتاحت لقادة المعارضة السورية تقريب وجهات النظر ومكنتهم من إيصال مطالبهم للحكومة السورية التي استجابت بالفعل لمطالبهم في الالتزام بتنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار ووقف اعتداءاتها على المدنيين و ضرورة وجود تعهدات من الدول الضامنة بأن يتم تنفيذ هذا الاتفاق، ووفقا لما ورد عن الخارجية الروسية أن معظم وفود المعارضة في المحادثات وافقت على وقف إطلاق النار وأشارت إلى أن الاتفاق لم يشمل الفصائل المتشددة التي قد لا تلتزم به حسب تعبيرها، وبالفعل شهدت محافظة إدلب ومحيطها هدوء على جبهات القتال وتوقفاً للغارات منذ دخول اتفاق وقف اطلاق النار حيز التنفيذ، وهي من القضايا التي تمت مناقشتها خلال مباحثات أستانا الثالثة عشر والأخيرة خلال عام 2019 التي عقدت في الثاني من أغسطس من هذا العام بالإضافة إلى الوضع في شمال شرق سوريا وتدابير بناء الثقة بين الأطراف المتصارعة و عودة اللاجئين و الوضع الإنساني و قضايا الإعمار بعد الحرب .

حيث استطاعت روسيا حماية النظام السوري بقيادة نظام الأسد على مدى تسع سنوات على الرغم من النزاع المستمر طوال تلك الفترة، وهو الدور الذي أشاد به الرئيس السوري بشار الأسد خلال اجتماعه مع وزير الدفاع الروسي سيرجي شويغو في 19 مارس 2019 في قيام روسيا بتحقيق الانتصارات على الجماعات المرتبطة بتنظيم الدولة الإسلامية والقاعدة ودورها في اتفاق المنطقة العازلة الذي وافقت عليه روسيا حليفة دمشق و تركيا، بالإضافة إلى استمرار جهودها لاستعادة سيطرة الحكومة السورية على جميع المدن السورية والتي تسيطر على ما يقرب من ثلثي المناطق السورية بينما يتبقى منطقتان فقط خارج نطاق سيطرتها وهي منطقة إدلب الشمالية الغربية التي يسيطر عليها الجهاديون بقيادة تحالف هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا ً) والمنطقة الخاضعة لسيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من الولايات المتحدة.

كما ألزم التفاهم الروسي التركي الجيش السوري بوقف إطلاق النار في إدلب في 31 أغسطس 2019، حيث أن محافظة ادلب ومحيطها مشمولة باتفاق روسي ـ تركي تم التوصل إليه في مؤتمر سوتشي الذي سبق انعقاده في سبتمبر 2018 والذي ينص على إقامة منطقة منزوعة السلاح، كما جاء البيان الصادر عن المركز الروسي للمصالحة في سوريا ليؤكد على التوصل إلى اتفاق “لوقف إطلاق النار أحادي الجانب من قبل القوات الحكومية السورية اعتبارا من الساعة 6:00 في 3 أغسطس2019” وتابع البيان أن المركز الروسي للمصالحة يدعو قيادات المجموعات المسلحة إلى وقف الاستفزازات والانضمام إلى عملية التسوية في المناطق الخاضعة لسيطرته، وسط تأكيدات من وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو بأن روسيا قد أكدت لأنقرة بأن نقاط المراقبة التابعة لها في شمال غرب سوريا لن تتعرض للهجمات .

وخلال قمة أنقرة التي عقدت في 16/ 9/ 2019 كانت مسألة إدلب من أبرز الملفات التي طرحت للمناقشة خلال القمة الثلاثية التي جمعت بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيريه التركي والإيراني ، كما تصدر ملف إدلب القضايا التي طرحت للمناقشة خلال القمة الثلاثية التي جمعت بين تركيا وإيران شركاء روسيا في عملية التسوية السلمية للأزمة السورية و التي عقدت في 16/ 9/ 2019 وهي خامس قمة ثلاثية تجمع بينهم مرتبطة بالأزمة السورية منذ عام 2017  ، والتي ناقشت الوضع في سوريا لمحاولة ضمان سريان هدنة دائمة في شمال غرب سوريا و خصوصا ًبعد تهيئة الوضع في إدلب وتحركات دمشق لاستعادتها من سيطرة المعارضة السورية .

ثانيًا-الدور الروسي في تسوية الأزمة السورية على صعيد المحور التركي -الكردي:

قامت تركيا بفتح جبهة صراع جديدة على الأراضي السورية من خلال العمليات العسكرية التي تقوم بها ضد الأكراد المتمركزين في الشمال السوري نتيجة سيطرة وحدات حماية الشعب الكردية السورية التابعة لحزب العمال الكردستاني على الأراضي في إدلب وشمال شرق سوريا بشكل سريع محاولة بذلك كسب النفوذ في سوريا و رفضها الانسحاب منها وتنفيذ ما تم الاتفاق عليه من تفاهمات حول المنطقة العازلة التي ترتبت على الاتفاق الروسي- التركي الذي أبرم في 17 سبتمبر 2018 ، وهو ما يبرر قيام تركيا بشن الهجمات العسكرية على مناطق تمركز الأكراد في الشمال السوري وتكثيف التواجد العسكري التركي لتأمين الحدود التركية المحاذية لمناطق تمركز القوات الكردية واستمرار تهديدها بتوسيع عملياتها العسكرية في الشمال السوري، فلطالما كان ملف الأكراد ولا يزال أهم أسباب التصعيد السياسي والعسكري التركي في سوريا وخاصة في ظل دعم الإدارة الأمريكية للأكراد المتواجدين في الشمال السوري وتشجيعهم على إنشاء كيان كردي مستقل عن دمشق في شمال شرق سوريا و تشكيل حكومة ما يسمى بـ فيدرالية شمال سوريا الديمقراطية  ، على أن تدعمها قوة مكونة من ثلاثين ألف مقاتل من قوات سوريا الديمقراطية ” قسد” والتي يقودها القائد الفعلي لوحدات الحماية الكردية التي تشكل الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الذي تصنفه تركيا بأنه النسخة السورية من حزب العمال الكردستاني والتي تتولى أمن الحدود مع تركيا والعراق.

لعب الأكراد دورًا هامًا في الصراعات الداخلية في العراق وسوريا وكان أهمها وآخرها قيادة المعارك ضد تنظيم داعش حيث تصدت وحدات حماية الشعب الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا لهجمات تنظيم الدولة الإسلامية ، وبهذا نجد أن الولايات المتحدة تسعى إلى تفعيل مشروع تقسيم سوريا وهو ما يختلف مع التوجه الروسي الذي يحرص دائماً في جميع مباحثاته على وحدة وسلامة الأراضي السورية، وهو ما يحظى برضا تركيا التي دائماً ما تخشى تنفيذ المشروع الأمريكي الذي يخطط لإنشاء كيان مستقل للأكراد في شمال شرق سوريا على الحدود السورية – التركية . وهو ما يبرر العمليات العسكرية التركية في الشمال السوري وتهديد تركيا الدائم بتوسيع عملياتها العسكرية في الشمال السوري لإجهاض المشروع الأمريكي.

كان الانسحاب الأمريكي الممنهج من الشمال السوري بمثابة شارة لانطلاق العمليات العسكرية التركية على الأكراد المتمركزين في منطقة شمال شرق الفرات على الحدود السورية التركية، الأمر الذي أضعف كثيرا ً من دور الحليف الأمريكي في الشمال السوري جرّاء حالة الخذلان والإحباط التي عمّت على الموقف الكردي الذي وقف وحيدا ًفي مواجهة الهجمات العسكرية التركية، نتيجة لعدم التزام القيادات الكردية بمبادرات الوساطة الروسية الداعية لتفعيل الحوار مع قادة النظام السوري وهو ما جاء في تصريح مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبنيزيا “بأن روسيا كانت تدعو الأكراد للحوار مع دمشق لكنهم اختاروا ” رعاة آخرين ” وأنتم ترون الآن ماذا يحدث” ، وهو ما يعني بأن الحليف الأمريكي الذي اختاره الأكراد ليس جدير بالثقة ولم يستطع تلبية مطالبهم الاستقلالية أو أن يوفر لهم الحماية و الدعم ضد الهجمات العسكرية التركية، إلا أنه جاء ليحقق انتصارًا ملموسًا للنظام السوري من خلال إضعاف إحدى جبهات المعارضة المشروعة الموجودة على الأراضي السورية التي لا تلقى ترحيبًا لا من النظام السوري ولا من القوى الثورية المعارضة للنظام السوري، و ذلك تحقيقًا لما تسعى إليه روسيا في سوريا من خروج لكافة العناصر و القوات الأجنبية من سوريا و الحفاظ على وحدة وسلامة الأراضي السورية وعودة السيطرة الشرعية للحكومة السورية في الشمال الشرقي لسوريا، الأمر الذي يوضح ثبات الموقف الروسي بشأن الهجمات العسكرية التركية في سوريا من الناحية العملية واستمرار موقفها الثابت على أنه لابد من اللجوء للحوار فيما بين (دمشق وتركيا) و(دمشق والأكراد) للتوصل إلى حل ولابد من قيام السلطات السورية بالسيطرة على أراضيها المحاذية للحدود التركية، وهو ما أكده وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف بأن ممثلو دمشق والأكراد قد أكدوا لموسكو بأنهم مستعدون للحوار، وأن روسيا لن تتمكن من عرقلة العملية التركية بالقوة لأن ذلك سيعد اختراقاً “لصيغة أستانا” التي يشترك فيها كل من روسيا وتركيا وإيران وأنه لو حدث وأن تصدت روسيا بالقوة سيكون هذا بمثابة ضربة للتسوية السياسية في سوريا لاسيما في ظل انطلاق العمل باللجنة الدستورية، وأن موسكو لديها خيار واحد فقط للتأثير على تركيا من خلال السعي للتوصل إلى اتفاق يجمع بين دمشق مع الأكراد، و خاصة بعد فشل جميع جولات التفاوض التي نظمتها روسيا والتي ناقشت القضايا المتعلقة بـالوضع على الأرض ولم تتطرق لمناقشة الوضع القانوني للمناطق التي يسيطر عليها الأكراد في سوريا و وضع قوات الدفاع الذاتي.

تمثل الانتهاكات التركية للأراضي السورية تحديا وعقبة أمام إتمام تنفيذ المبادرات الروسية لترتيبات التسوية السلمية للأزمة السورية الراهنة، فما لبث أن صرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عن الانتهاء من تشكيل اللجنة الدستورية السورية في الثالث من أكتوبر 2019 ، معلناً بذلك عن انتهاء الأعمال القتالية واسعة النطاق في سوريا و أنه لابد من العمل على حل الأزمة السورية عن طريق التسوية السياسية و السلمية من خلال طاولة مفاوضات واحدة تجمع بين الحكومة السورية والمعارضة ووفداً من المجتمع المدني ، حتى أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في التاسع من الشهر نفسه عن اطلاق عملية عسكرية في منطقة شمال شرق سوريا تحت اسم “نبع السلام” بهدف القضاء على ما أسماه ” الممر الإرهابي” المراد إنشائه قرب حدود تركيا الجنوبية في إشارة إلى وحدات حماية الشعب الكردية التي تعتبرها روسيا ذراعا لحزب العمال الكردستاني  والتي تنشط ضمن قوات سوريا الديمقراطية “قسد” التي دعمتها الولايات المتحدة في إطار محاربة داعش  ، الأمر الذي يقوَض استئناف أعمال اللجنة الدستورية السورية التي كان من المفترض بأن تعمل على إنهاء حالة الحرب والصراع القائمة بين الأطراف السورية وتحقيق الاستقرار السياسي والإصلاح الدستوري ومحاربة الإرهاب والبدء في عمليات إعادة الإعمار، فعلى الرغم من انكشاف اللعبة السياسية التي تستهدف تحقيق المصالح الذاتية للقوى الإقليمية والدولية تحت ستار محاربة الإرهاب إلا أننا نجد أن أردوغان قد استخدم هذا الساتر الوهمي تحت مسمى عملية “نبع السلام” لمحاربة الإرهاب المتمثل في الأكراد المتمركزين على الحدود التركية السورية منتهزاً فرصة قد لا تلوح له فيما بعد لتصفية حساباته الداخلية مع الأكراد بعيدًا عن الأراضي التركية، الأمر الذي يمثل انتهاكا للسيادة و للأراضي السورية ، وذلك لإثبات تواجده ضمن مضمار توازنات القوى الإقليمية الفاعلة في المنطقة متغاضيا ًعن الجهود الروسية المبذولة في سبيل تحقيق تسوية سلمية يشترك فيها كل أطياف المجتمع المدني السوري وهو أمر ليس بالهين.

 وهنا تجلى الدور الروسي في الشمال السوري وتمكن من قطع الطريق أمام تنفيذ الأجندة أو المخطط التركي الذي يسعى إلى تعقيد الوضع في سوريا، و لعب دورًا حاسمًا في سحب الذريعة أو الحجة الكردية من خلال الاتفاق المصيري الذي تم التوصل إليه في مؤتمر ستوشي الأخير الذي جمع بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان في 22 من أكتوبر الماضي والذي تم على إثره الإيقاف التام لكل العمليات العسكرية التركية ضد الأكراد المتمركزين في الشمال السوري وإيقاف التهديدات لكل مكونات الشمال السوري جراء الحرب التركية، حيث اتفق الجانبان الروسي والتركي خلال لقائهما في ستوشي على ضرورة الالتزام بالحفاظ على الوحدة السياسية والسلامة الإقليمية لسوريا و حماية الأمن القومي لتركيا و ضرورة محاربة الإرهاب بجميع أشكاله وتعطيل البرامج الانفصالية في الأراضي السورية تمهيدا للبدء في العملية السياسية والتوصل إلى حل سياسي شامل ودائم.

مخرجات ستوشي 2019

استطاعت روسيا من خلال اتفاقية ستوشي الأخيرة من أن تحدد النطاق الجغرافي الذي تسيطر عليه القوات التركية حاليا في الشمال السوري بما يتضمن المناطق التي حررتها سابقا من سيطرة القوات الكردية ومن عناصر تنظيم داعش منذ بداية العملية التركية العسكرية خلال عام 2016.

وبموجب هذا الاتفاق ضمنت تركيا بقاء قواتها داخل الأراضي السورية على عمق 32 كيلو مترا في بلدتي رأس العين وتل الأبيض وهي المناطق التي شهدت العملية العسكرية التركية الأخيرة “نبع السلام”، والعمل على مراقبة تنفيذ الاتفاق من خلال تسيير دوريات روسية تركية مشتركة غرب وشرق منطقة عملية نبع السلام على عمق 10 كيلو متر باستثناء مدينة القامشلي التي تتمتع بإدارة ذاتية للأكراد، وفي المقابل ستتولى القوات الروسية والجيش السوري السيطرة على بقية الحدود السورية البالغ طولها 440 كيلو مترا بالإضافة إلى تسيير دوريات من الشرطة العسكرية الروسية وحرس الحدود السوري على الحدود السورية التركية غير المشمولة بعملية نبع السلام لتسهيل نقل عناصر وحدات حماية الشعب وأسلحتهم إلى عمق 30 كم من الحدود باتجاه الداخل السوري، كما تضمن الاتفاق الروسي التركي إنشاء المنطقة العازلة على الحدود السورية التركية لتحييد خطر الأكراد، وتأمين عودة ما يصل إلى مليوني لاجئ من أصل ما يقرب إلى 3,6 مليون لاجئ سوري إلى أراضيهم بطريقة آمنة وطوعية،  وذلك لقطع الطريق أمام تنفيذ التهديد التركي واستخدام قضية اللاجئين كورقة ضغط رابحة بفتح البوابات أمام اللاجئين باتجاه أوروبا إن لم تدعم الدول الأوروبية مطالب تركيا لإقامة منطقة آمنة في شمال شرق سوريا لنقل اللاجئين السوريين المقيمين في تركيا إليها،  الأمر الذي من شأنه التأثير على بنية الدولة السورية من خلال العبث بالخريطة الديمغرافية التي من شأنها أن تحدث تغييرات في الخريطة الجغرافية لحدود الدولة السورية تباعا لمناطق نفوذ الفاعلين الخارجيين.

سعت روسيا من خلال مبادرتها لعقد اتفاق ستوشي الأخير مع تركيا إلى تمهيد الأراضي السورية للاستقرار السياسي والإصلاح الدستوري وإعادة الإعمار وشددت على ضرورة التزام جميع الأطراف المتصارعة بالتفاهمات التي نتجت عن مؤتمر ستوشي لتفادي حدوث الأزمات التي من شأنها أن تعرقل المبادرات الروسية لتسوية الأزمة السورية، ذلك من خلال الاستجابة للمطالب التركية والعمل على تحييد الخطر الكردي عن حدودها و ذلك تمهيداً لإنهاء الوجود التركي في الأراضي السورية وتسوية الأزمة مع الأكراد من خلال تفعيل دور الحوار بين الحكومة السورية و تركيا و الأكراد المتمركزين في الشمال السوري و هو ما أعلنه وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في مؤتمر صحفي قائلا ً: “إن موقفنا ينطلق من ضرورة حل المشاكل في سوريا عبر الحوار بين السلطة المركزية في دمشق و ممثلين عن الأكراد الذين هم سكان تقليديون لهذه الأرض”،   كما شدد الرئيس الروسي على ضرورة تحرير سوريا من الوجود العسكري الأجنبي غير الشرعي لإرساء قواعد السيادة للدولة السورية و تحقيق الاستقرار طويل الأمد أو على المدى البعيد.

وهو ما أشاد به الرئيس السوري بشار الأسد بقوله بأنه يأتي الدور الروسي بشكل إيجابي لأنه يقطع الطريق على المخطط التركي بأبعاده الإخوانية والعثمانية والمخطط الأمريكي المرتبط بالتركي والذي يسعى إلى تعقيد الوضع في سوريا من خلال الوجود التركي والخيار الأوروبي الذي طرحته ألمانيا القاضي بتدويل المنطقة وبالتالي إيجاد حماية دولية الأمر الذي حتما سينتهي بالسيطرة والتحكم الأمريكي.

الخلاف الروسي – الأمريكي في الشمال السوري

أعلنت روسيا عن قلقها إزاء الموقف الأمريكي المتغير الذي يقضي بانسحاب القوات الأمريكية من الشمال السوري تمهيدا لبدء العملية العسكرية التركية ومن ثم إعادة الانتشار للقوات الأمريكية تارة أخرى وبأعداد إضافية حول حقول النفط شمال شرق سوريا، حيث شنت روسيا هجوما شديدا على القرار الأمريكي القاضي بنشر قوات أمريكية إضافية في منطقة شرق الفرات واتهمتها بسرقة النفط السوري والتي قدرته بـ30 مليون دولارًا شهريًا وذلك إثر إعلان وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر عن نيته بتعزيز وجوده العسكري وذلك بنشر قوات إضافية في مناطق الحقول النفطية في محافظة دير الزور شمال شرق سوريا   وذلك لحماية الآبار النفطية من سيطرة الجماعات الإرهابية و الميليشيات المسلحة لا سيما الميليشيات الإيرانية المتواجدة على الأراضي السورية و لمنع تنظيم الدولة الإسلامية ” داعش” من الاستفادة منها مرة أخرى علاوة على أنها ستوفر مردودا ماليا لحلفائها من قوات سوريا الديمقراطية ، حيث تم الإبقاء على ما يقرب من 600 ألف جندي أمريكي مع إمكانية خفض العدد في حال ساهم الأوروبيون في الأزمة السورية وهو ما وصفها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب “بالمهمة”   الأمر الذي يعني إمكانية زيادة أعداد القوات في أية لحظة بما يعني بأنه انسحاب أمريكي جزئي ولا يخرج واشنطن من حسابات الملف السوري بشكل كامل، والتنبؤ ببدء صراع جديد بين الولايات المتحدة الأمريكية و روسيا على مصادر الطاقة في سوريا و القريبة من القواعد العسكرية لكل منهما و ما إلى ذلك من قيام الولايات المتحدة بإجراءات استفزازية لروسيا من خلال قيام طائرة استراتيجية أمريكية بتنفيذ سلسلة من المهمات الاستطلاعية الاستخباراتية فوق المياه الدولية بشرق البحر المتوسط  بالقرب من القاعدة البحرية الروسية في ميناء طرطوس و قاعدة حميميم الجوية بريف اللاذقية دون أن تنتهك حدود سوريا البحرية وذلك على مسافة تتراوح ما بين 35 و  كيلو مترا،  الأمر الذي ينبئ بالمزيد من التعقيدات التي تسعى واشنطن إلى استمرارها في الشمال السوري لعرقلة مسار التسوية السلمية الروسية للأزمة السورية وخاصة فيما يتعلق بالتفاهمات التي توصل إليها الجانبان الروسي والتركي بشأن انسحاب المقاتلين الأكراد من المناطق الحدودية مع تركيا، الأمر الذي قد يقوض التفاهم الروسي التركي نتيجة التكهنات بعدول الأكراد عن تنفيذ الاتفاق والعودة إلى المناطق الحدودية في محاولة منهم لإفشال المخططات الأمريكية الرامية إلى السيطرة على الثروات النفطية السورية وخاصة بعد قيامهم بطرد عناصر تنظيم الدولة الإسلامية من مدينة الرقة وحقول النفط والغاز الغزيرة الإنتاج في محافظة دير الزور شرقي سوريا  .

انعكاس الدور الروسي في إدارة الأزمة السورية على العلاقات الروسية – التركية

تشهد العلاقات الروسية التركية نمط جديد من العلاقات فيما يتعلق بما تم بين الطرفين من تفاهمات لإدارة الأزمة السورية حيث تشترك تركيا مع روسيا في دورها الراعي لعملية التسوية السلمية للأزمة السورية، إلا أن الخلاف التركي مع الأكراد المتواجدين في المدن الواقعة شمال شرق الفرات والذي ترتب عليه التواجد العسكري التركي في الشمال السوري ومماطلة تركيا في الالتزام بشأن مناطق خفض التصعيد كان من شأنه أن يؤثر على العلاقات الروسية التركية بشكل أو بآخر.

فعلى الرغم من تعرض العلاقات الروسية – التركية لتصدع نتيجة قيام تركيا بإسقاط طائرة روسية مقاتلة من نوع (سو -24) في نوفمبر/ تشرين الثاني 2015 ، إلا أن موسكو قد استكملت تطبيع العلاقات مع تركيا  نتيجة رغبة موسكو في المحافظة على أكبر سوق إقليمية للطاقة لديها ، و خاصة بعد إدراك موسكو لتراجع العلاقات الامريكية – التركية و إدراك كل منهما أنه ثمة مصالح مشتركة لهما في سوريا ، فهناك ما هو أبعد من ذلك إذ ترتبط روسيا مع تركيا من خلال شبكة من العلاقات التبادلية البراجماتية وذلك لكون تركيا ثاني أكبر سوق للطاقة بالنسبة لروسيا كما أنها أحد أهم أسواق السلاح لاسيما قبل قيام تركيا بشراء نظام (إس – 400) للدفاع الجوي من روسيا ، والتي تسببت في أزمة في العلاقات الأمريكية التركية التي تمثلت بإرسال وزير الدفاع الأمريكي بالوكالة باتريك شاتاهان رسالة شديدة اللهجة لنظيرة التركي بخصوص تلك الصفقة في 6 يونيو/حزيران 2019 ، و التي وضحت عزم أمريكا على إخراج تركيا من برنامج المقاتلة (اف -35) بحجة أنه في حال تم تركيب نظام صواريخ (اس-400) في تركيا الأمر الذي سيعرض نظام المقاتلة (اف- 35) للخطر تكنولوجيا.

ثالثًا-الدور الروسي في تسوية الأزمة السورية على صعيد المحور السوري – الإيراني:

الوجود الإيراني في سوريا:

يشكل الخلاف الدائر بين روسيا و إيران عائقًا أمام التوصل لتسوية سلمية شاملة في سوريا، لا سيما في ظل التخوف الروسي إزاء طموحات الهيمنة الإيرانية في جنوب سوريا، كما أن روسيا لا ترغب في وجود قوات عسكرية موالية لإيران على خطوط الجبهة مع المعارضة السورية تنفيذا لما تم الاتفاق عليه في مباحثات التسوية السلمية النهائية من خروج جميع القوات الأجنبية من الأراضي السورية، فمن الجدير بالذكر حصول طهران على صفقات لملكية الأراضي للشيعة السوريين و توثيق علاقة الحرس الثوري الإيراني بالقوات المسلحة السورية، بحيث تحظى بدور قيادي في إصلاح الوضع الأمني السوري ، إذ تشارك إيران في جهد واسع يهدف إلى دمج الهياكل الخاضعة لقيادتها مع الدولة السورية نفسها- كما هو الحال في لبنان والعراق- بهدف إزالة أي حدود يمكن تحديدها بين العنصر الذي تسيطر عليه إيران وهيكل السلطة المحلي، سعيا لإيجاد نوع من “الدولة العميقة” الخاضعة لسيطرتها ضمن آلية الدولة الحالية في سوريا والذي يشتمل على العناصر التالية :

  • إنشاء ميليشيات تم تجنيدها من بين السكان السوريين، وتشمل هذه التشكيلات مثل قوات الرضا ولواء الباقر والكتيبة 313، بحيث يتم تجنيد هذه الهيئات وتدريبها من قبل فيلق الحرس الثوري الإسلامي الإيراني بالتعاون مع حزب الله اللبناني في طهران.
  • إنشاء هيئات على غرار الباسيج الإيراني -قوات الأمن المحلية الموجودة في كل مكان والتي يُخشى وجودها -داخل قوات أمن الدولة الرسمية في سوريا، إن قوة الدفاع الوطني هي الهيئة الرئيسية داخل سوريا تتكون من 90.000 إلى 100.000 عنصر، تتعقبهم وتجنّدهم قوات الحرس الثوري الإيراني لكنها تشكل جزءا من القوات المسلحة السورية.
  • دعم ورعاية وبناء التحالف داخل القوات المسلحة السورية الرسمية، حيث أقام الحرس الثوري الإيراني علاقات مباشرة وثيقة مع بعض العناصر الأكثر قوة داخل الجيش العربي السوري، ولعل أبرز ما في الفرقة الرابعة من فرقة ماهر الأسد الشقيق الأصغر لبشار الأسد.
  • الجهود المبذولة لنقل سكان سوريين وغير سوريين وغيرهم من المسلمين الشيعة إلى المناطق التي كان يسكنها في السابق سوريون سُنّة.

في إطار محاولات روسيا للتوصل إلى تسوية سلمية نهائية للأزمة السورية ومن خلال التفاهمات التي أجرتها مع إيران حول ضرورة تقديم تنازلات واضحة في سعيها للتوصل إلى تسوية سلمية مرضية لجميع الأطراف الإقليمية والدولية الفاعلة في عملية التسوية إلى جانب النظام السوري و المعارضة قامت روسيا بالضغط الدبلوماسي على إيران بهدف إنهاء التواجد الإيراني في الجنوب السوري من خلال آليات تمثلت في قيام روسيا بتحركات ميدانية و تعزيز حضور الشرطة العسكرية الروسية في منطقة الغوطة وبعض أحياء العاصمة السورية دمشق ، بالإضافة إلى “المناورة ” التي قامت بها موسكو في منطقة القصير عبر الدفع بوحدات من الشرطة العسكرية ثم سحبها في وقت لاحق ، بالإضافة إلى انتشار قوات روسية في سوريا قرب الحدود اللبنانية والتي تسببت في احتكاك مع القوات المدعومة من إيران ومن بينها قوات حزب الله الذي اعترض على التحرك الروسي غير المنسق ، وبذلك سعت روسيا إلى توجيه رسالة جادة لإيران و لغيرها من الأطراف بجدية موسكو في طرحها حول ضرورة تقديم تنازلات واضحة لإطلاق تسوية نهائية مرضية لجميع الأطراف .

وفي الخامس والعشرين من يناير 2019 صرحت روسيا عن أنها لا تعتبر نفسها حليفة لإيران في سوريا، وذلك لأنها (إيران) تشكك في دور روسيا في سوريا وتعمل على استرضاء إسرائيل ومساعدتها في التخلص من الوجود الإيراني في  سوريا ومواجهته على حساب مصالح حلفائها سوريا و إيران، وذلك وفقا لما قاله نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف موضحًا أن: “الروس والإيرانيين يعملون معاً في سوريا، ولكنهم ليسوا حلفاء”، وجاء هذا التصريح بعد قيام إسرائيل بشن غارات استهدفت مواقع لميليشيات إيرانية في سوريا، والتي أثارت غضب إيران نتيجة عدم تحرك الروس لمنع إسرائيل من الاستمرار في عملياتها العسكرية ضد الأهداف الإيرانية وعلاوة على قيام نائب رئيس الخارجية الروسي بالتصريح بأن ” روسيا تدرك أهمية الحفاظ على أمن إسرائيل ” ، ومع هذا كله نجد أن روسيا لم تتخذ موقفًا حازمًا حيال إيران و وجودها وتأثيرها في سوريا وأنها رغبت فقط من خلال مواجهة تعزيز الوجود الإيراني في سوريا والتفاهمات التي أجرتها مع إسرائيل عن منطقة الجنوب إطلاق حوار شامل مع الأطراف الفاعلة في الأزمة السورية والذي أفاد بأن إيران ستكون أكثر مرونة في الحديث عن تقليص وليس إنهاء الوجود الإيراني في سوريا .

لذلك تبقى روسيا متخوفة من مستقبل إيران في سوريا وخاصة أنها تعلم بأنها تنتظر خروجها (روسيا) للسيطرة على سوريا، وأن هذا المشروع الإيراني يهدف إلى التحكم عن بعد بسوريا على المدى البعيد، الأمر الذي يعني بأن مستقبل سوريا السياسي سيظل معلقا بين روسيا وإيران وأنه سيشكل تبعا لتقلبات التحالف الروسي – الإيراني.

رابعًا-الدور الروسي في تسوية الأزمة السورية على صعيد المحور السوري – الإسرائيلي:

قامت إسرائيل بالعديد من الإجراءات التعسفية والاستفزازية من خلال قيامها بشن غارات جوية  واستهداف العديد من الأهداف الإيرانية في الأراضي السورية حيث نفذت إسرائيل ما لا يقل عن 200 غارة جوية ضد أهداف إيرانية في سوريا منذ عام 2017 ، لا سيما في الفترة التي تلت انسحاب القوات الأمريكية من الأراضي السورية مما أفسح لها المجال بأن تستفز عدوتها إيران الداعمة لعناصر حزب الله اللبنانية وهو ما استدعى” بأن قام المندوب الخاص للرئيس الروسي لشؤون سوريا “ألكسندر لافرينتيف” بالرد في مقابلة مع وكالة ريا نوفوستي الروسية بأن إيران على الرغم من قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاعتراف بمرتفعات الجولان كأرض إسرائيلية فإنها تفي بوعودها ولم تجلب قواتها في سوريا إلى الحدود مع الدولة اليهودية في منطقة الجولان”، وعلي الرغم من ذلك إلا أن لدى إسرائيل تخوف دائم من النفوذ الإيراني المتصاعد في سوريا وهو ما يجعلها مستمرة في استراتيجية الحرب الاستباقية وقيامها بشن غارات جوية بعدد من الصواريخ من اتجاهي الجولان السوري المحتل ومرج العيون اللبنانية لاستهداف عشرات الأهداف العسكرية التابعة لفيلق القدس الإيراني والجيش السوري والتي تشتمل على قواعد صواريخ أرض– جو ومقرات قيادة ومستودعات أسلحة التموضع الإيراني ، تأتي هذه الغارات في مرحلة تطبيق مذكرة التفاهم الروسية التركية التي مهدت منطقة الشمال السوري لبوادر الاستقرار الأمني والسياسي وهو ما ترفضه إسرائيل الساعية لاستمرار تعقيد الأزمة السورية إلى الحد الذي تتمنى إسرائيل تحقيقه من انهيار لنظام بشار الأسد وسقوط حكومته والذي حتما سيسقط معه التحالف السوري – الإيراني مصدر تهديد الأمن الإسرائيلي لتفسح لنفسها المجال لمواجهة الخطر الإيراني بعيدًا عن حدودها على الأراضي السورية، أو تنفيذ المخطط الأمريكي – الإسرائيلي الساعي لإضعاف سوريا و تقسيمها تبعا لمناطق نفوذ الفاعلين فيها لثلاث مناطق للسيطرة بحيث تسيطر روسيا و إيران مع النظام السوري على الجمهورية العربية السورية وأن تسيطر تركيا على الشمال السوري المعارض للنظام السوري على أن تسيطر الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية على مناطق نفوذ الأكراد الواقعة شرق الفرات، الأمر الذي يحقق لها طموحها في عدم الخوف من خطر المواجهة في حال قامت بالإعلان عن ضمها للجولان بشكل فعلي.

وفيما يتعلق بالتصعيد الأمريكي -الإسرائيلي في سوريا وقع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في نهاية شهر مارس في اجتماع مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إعلانًا يعترف بالسيادة الإسرائيلية على مرتفعات الجولان،  حيث أعطى الانسحاب الأمريكي فرصة أكبر لإسرائيل بأن تتدخل في الساحة السورية وقيامها بالاعتراف بالجولان المحتل كجزء من إسرائيل كورقة ضغط تستخدمها ضد روسيا وإيران أو ضد رعاة أستانا في سعيها نحو الانتقال أو العودة إلى جنيف.

ووفقًاً لما تناقلته وكالة الإعلام الروسية في 22 مارس2019 أعلنت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا عن رفضها لتصريحات ترامب” بأن تغيير هضبة الجولان سيمثل انتهاكًا مباشرًا لقرارات الأمم المتحدة”.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*