فيديل كاسترو صانع كوبا الحديثة: من الثوري الذي لا يمل الحديث عنه إلى أيقونة من الماضي

هل مات «الكوماندان» منتصراً على الإمبريالية ولماذا دفعته واشنطن إلى أحضان السوفييت؟

في كوبا لا يوجد شارع يحمل اسمه ولا تمثال يخلد أمجاده ولكنه ظل صورة كوبا وهواءها الذي تتنفسه على مدى أكثر من ستين عاماً.
وبرحيل فيديل كاسترو عن عمر يناهز التسعين عاماً تطوى صفحة من تاريخ الجزيرة الكوبية التي ظلت طوال الحرب الباردة في مواجهة وصدام مع الجارة الأمريكية ـ القوة الأعظم في العالم.
فكم حاولت المخابرات الأمريكية «سي آي إيه» اغتياله وتسميمه في مؤامرات لا تحصى ولا تعد ولكنه عاندها وظل حياً ليشهد عودة العلاقات مع الولايات المتحدة التي هندسها شقيقه راؤول كاسترو، واعترف أن الكوماندان الذي خرج من الحلبة ولم يخرج منها قد كبر وأن الجزيرة التي خسرت بسبب الحرب الباردة ونهاية الثورة البوليفارية التي قادها هوغو تشافيز في حاجة اليوم لأصدقاء أكثر من الأعداء.
رحل الرجل إذاً لم يبق منه غير تراثه الذي بدا في صورة الأطفال الذين يذهبون للمداراس يعتمرون اللفحات الحمراء ويتلقون دورسهم مجانا، وفي النظام الصحي الذي أصبح رياديا في العالم وتفوق على النظام الصحي الأمريكي.
وبرحيله أصبح كل هذا في يد التاريخ حيث سيناقشه المؤرخون لعقود مقبلة مع أن نجاحات الثورة وفشلها واضحة رغم سنوات من الإصلاح حيث لا تزال تحمل بصمات «الفيديلية»، فقد كان القائد الأعلى مدمناً على العمل ويحب معرفة كل شيء وحول الجزيرة الكاريبية إلى معمل اختبار اقتصادي وسياسي واجتماعي اثار دهشة العالم وأرعب وألهمه في الوقت نفسه.
ونقلت صحيفة «الغارديان» عن دان إريكسون المحلل في معهد الحوار الأمريكي قوله «عندما وصل فيديل إلى السلطة عام 1959 توقع القليلون نجاحه في تحويل كوبا ويفكك أولويات الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية ويحقق اتباعاً في العالم وعلى قاعدة واسعة».

وصل للجميع

ومن أهم ملامح إرثه نقص المواد حيث أثر على حياة الكوبيين العاديين خاصة فيما يتعلق بالنقل والسكن والطعام والأسعار العالية للصابون والكتب والثياب. واستمرت المشاكل بعد تسليم فيديل السلطة لشقيقه راؤول عام 2008.
ورغم تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة وتشجيع الاستثمارات الصغيرة إلا أن الدولة لا تزال تسيطر على حصة الأسد من الاقتصاد وتدفع الحد الأدنى من الرواتب الشهرية وهي 15 دولاراً.
وقد دفع هذا الكثيرين للبحث عن دخل إضافي من خلال البغاء أو الفساد وإن على مستوى قليل. والمحظوظون بدرجة كبيرة هم من يعملون في قطاع السياحة ويتلقون أجوراً عالية أو يرسل لهم أقاربهم المقيمون في فلوريدا مساعدات مالية. ورغم قدرة الكوبيين على التكيف مع الحياة والبحث عن طرق للدخل والعيش بكرامة إلا أنهم يحنون لوضع يسهل عليهم امور معيشتهم.
ونقلت «الغارديان» عن ميغول (20 عاماً) «نريد شراء الأشياء الجميلة مثل ما تفعلون في بلادكم». وفي حياته حمل كاسترو الولايات المتحدة مسؤولية الأوضاع التي تمر بها الجزيرة واتهمها بخنق والقيام بعملية خنق للإقتصاد الذي كلف الدولة خسائر بالمليارات.
ولكن المحللين يرون أن خطط الدولة الاقتصادية الفاشلة وتحكمها بالسياسات الاقتصادية أدت إلى نتائج مدمرة. وانتشرت نكتة بين الكوبيين «يتظاهرون بالدفع لنا ونتظاهر بالعمل».
ومع ذلك هناك جانب مضيء للثورة الكوبية وهي أنها أدت للقضاء على الأمية بسبب توفير التعليم المجاني وارتفعت معدلات الحياة بين المواليد بسبب النظام الصحي. فقد أكد «الكوماندان» على أهمية وصول خدمات الدول للتجمعات الفقيرة التي لم تحظ بنفس الخدمات في بقية دول أمريكيا اللاتينية. وأدى هذا لانتشار المثالية بين السكان رغم ما يعانون من مشاكل، فبعضهم يرى أن عمله في القطاع الطبي والصحي هو خدمة للثورة وللإنسانية. ورغم انسحاب كاسترو من الحياة العامة إلا أنه احتل موقعاً مهماً في قلوب سكان الجزيرة وعقولهم.
وظل خلال سنوات العزلة في بيته يعتني بحديقته المحروسة، وكلما انتشرت شائعة عن وفاته قام بنفيها من خلال ظهور مفاجئ أو صورة على كرسي مع أنه بدا في نهاية حياته واهناً وضعيفاً.
وتشبه نهاية كاسترو قصص المحاولات التي قام بها كل رئيس أمريكي لإغتياله وانتهت بالفشل. فرغم أنه عايش 11 رئيساً أمريكياً إلا أنه نجا من محاولات سي آي إيه لإغتياله والتي تعد بالمئات.

نهايات الثورة

وتشير السنوات الأخيرة من حياته لتقاعد الزعيم عن العمل بل عن الحلم بنشر الثورة في العالم والتي انتهت عام 1967 بمقتل رفيق دربه تشي غيفارا في أدغال كولومبيا على يد المخابرات الأمريكية، وبمحاولته مواصلة المسيرة وبنتائج غير ناجحة في أثيوبيا وانغولا. ومع نهاية الحرب الباردة وتخلي السوفييت عنه بدأ يبحث عن حليف جديد، ووجد في الثورة البوليفارية التي قادها هوغو شافيز في فنزويلا مخرجاً اقتصادياً وعودة للحلم بالثورة التي كان يطمح غيفارا لتحقيقها في أرجاء القارة إلا أن وفاة تشافيز وتحول فنزويلا لدولة شبه فاشلة وهزيمة معظم اليسار في امريكا اللاتينية جعلته يكتشف أو هكذا نعتقد أن الزمن لم يعد زمنه.
ورغم ظهوره مع البابا فرانسيس الأول العام الماضي إلا أنه ظل يعتني بالنباتات في حديقته مبتعداً عن الناس. وقبل وفاته أصبح كاسترو شخصية تاريخية من الماضي وليس سياسية «فرغم هيمنة كاسترو على كوبا ولعقود إلا أن شقيقه راؤول كان من يتخذ القرارات « حسبما قال مسؤول أوروبي. ويستبعد المسؤول حدوث أي تحول في السياسة الكوبية بعد كاسترو إلا حالة لحق الأخ راؤول بشقيقه بعدما كرس كل جهده للإصلاح.
وترى الصحيفة أن كوبا بدأت تتحرك من عصر فيديل بالطريقة التي حدثت في الصين بعد ماوتسي تونغ وفيتنام بعد هوشي منه. فبناء على خطة التحديث الإقتصادي لعام 2010 قامت الدولة بتخفيض مليون وظيفة وفتحت المجال امام الأعمال الصغيرة، مثل المطاعم التي تديرها العائلات او الفنادق الخاصة، ومنح المزارعون استقلالية أكثر وحوافز لإنتاج مزيد من المواد الغذائية.
وخففت الدولة القيود على السفر للخارج وأنهت القيود على بيع السيارات. كان أكبر تغير قد حصل هو الساحة الدبلوماسية حيث وثقت هافانا علاقاتها مع الفاتيكان ووقعت اتفاقاً تاريخياً مع الولايات المتحدة.
ولم يلغ كل هذا حقيقة أن الجزيرة تشكلت عبر صورة ورؤية رجل واحد، ففي كل مكان هناك بصمات له مثل ساحة الثورة التي كان يلقي فيها كاسترو خطابات ماراثونية وأمام حضور مكون من مليون شخص.
ومع ذلك لا تزال آثار الحياة التي عاشها الكوبيون في أيام الثورة الأولى لأن شيئاً لم يتغير بسبب الحظر الذي فرضته الولايات المتحدة على كوبا.
ورغم ما عاناه الكوبيون في ظل كاسترو من غياب الفرص وقمع للمعارضة إلا أن هناك مجالاً قليلاً للنقد في ظل توفر فرص السفر وغياب الشعور بالأزمة بين الكوبيين.
ومع أن كوبا لا تزال قريبة من فنزويلا أكثر من الولايات المتحدة إلا أنها تبحث عن مصلحتها وفرصها أكثر مما كانت عليه أثناء فترة كاسترو. فكوبا اليوم تختلف عن تلك التي نصبت لوحة تذكارية لسلفادور الليندي، الزعيم التشيلي القتيل وكتب عليها عبارات الزعيم التشيلي «أن تكون شاباً وليس ثورياً هو تناقض وبيولوجي أيضاً».

نهاية مرحلة

ومهما يكن فوفاة كاسترو يعبر عن نهاية مرحلة تاريخية في تاريخ ثورات الاستقلال والتحرر في القرن العشرين ويظل شخصية كبيرة وذات أثر تاريخي على مسار ذلك القرن المليء بالثورات والتناقضات.
فقد ظل في حياته ومماته رمزاً للوقوف أمام الإمبريالية الأمريكية. وسيتذكر العالم «فيديل» كما كان الكوبيون ينادونه بزيه العسكري ولحيته وسيجاره علامة الثوريين من جيله. وحتى تقاعده عن السياسة كان أطول حاكم يحكم جزيرة في العالم.
وفي الأيام الأولى من الثورة لم يكن كاسترو شيوعياً أو قدم نفسه باعتباره ماركسياً لينينياً أو حتى اشتراكياً وبعد عامين من ثورته بدأ في التحالف مع الكتلة الشيوعية لحماية نظامه من العدوان الأمريكي.
فبعد محاولة خليج الخنازير في 1961 وجد كاسترو نفسه في أحضان السوفييت الذين كانوا يحاولون إقامة قاعدة عسكرية لهم في الكاريبي.
وكان كاسترو الرجل الذي دعم الزعيم السوفييتي نيكيتا خروشوف وهما مع جون كيندي حبسوا أنفاس العالم لمدة 13 يوماً من تشرين الأول/أكتوبر 1962 عندما كشفت طائرة يو-2 أمريكية عن وجود صواريخ سوفييتية في الجزيرة موجهة باتجاه أمريكا.
وعاش العالم في ذلك الوقت منظور اندلاع حرب عالمية ثالثة. ودعا كاسترو خروشوف لشن هجوم نووي على أمريكا لو تم غزو الجزيرة.
ورفض الزعيم السوفييتي الطلب إلا أن قادته الميدانيين في الجزيرة أعطوا أوامر لاستخدام السلاح النووي بطريقة تكتيكية لو تعرضوا للهجوم. واستطاع كاسترو الحصول عبر خروشوف على وعد من الرؤساء الأمريكيين بعدم شن غزو على الجزيرة وهو الذي أوفى به كل الرؤساء الأمريكيين حتى الرئيس المنتخب دونالد ترامب المؤمل أن يشرفه هو الآخر.
وحاول كاسترو عبر السنين التقارب مع الولايات المتحدة خاصة في ظل جيمي كارتر وبيل كلينتون إلا أن الكونغرس رفض متأثراً بالكوبيين الأثرياء في فلوريدا بالإضافة لرؤية كاسترو أن الاحتفاظ بأمريكا كعدو تظل الضامن له ضد أي اضطرابات داخلية وقال كاسترو إن «ثورة لا تواجه عدواً تعاني من خطر النوم».
وحظي الرئيس الكوبي السابق باحترام وإعجاب الكاتب الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز ولاعب الكرة الأرجنتيني دييغو مارادونا وساسة بريطانيين مثل جورج غالواي. وعانى من مقت وكراهية الكوبيين الذين هربوا إلى أمريكا واحتفلوا عندما سمعوا بوفاته.
وأكدت «سي آي إيه» أنها قامت بـ أكثر من 600 عملية لاغتياله مع أنه زعم أنها 300 أهمها إرسال سيجار متفجر لم ينفجر، وشراب فراولة مع الحليب مع سم أل أس دي وزجاجة شامبو تم التلاعب بمركبها الكيميائي حيث صمم من أجل حرق لحيته التي كانت مهمة لصورته.
وكان رد كاسترو على الملاحقة هو العيش مثل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات الذي كان ملاحقاً من الإسرائيليين، أي التنقل من بيت لآخر. وكان رجاله يقومون بفحص الطعام قبل تناوله. وفي رحلاته الخارجية كانت ترافق طائرته طائرة أخرى مشابهة للتمويه. وقال أحد حراسه إن الكوماندان كان يغير كل يوم ملابسه الداخلية ويحرقها خشية محاولة سي آي إيه وضع مواد كيميائية فيها عند الغسيل.
وفي النهاية تعتبر حياة وكفاح كاسترو الذي بدأ نشاطه السياسي عام 1954 في الحزب الارثوذكسي كانت بمثابة انتصار أخير على المحتفلين في فلوريدا.

انتظروا طويلاً

فقد ظل هؤلاء ينتظرون اللحظة التي تنفجر فيها الجزيرة ضد الكوماندان كما تقول جوليا سويغ في «فورين أفيرز». وترى أن مرحلة ما بعد كاسترو بدأت قبل وفاته حيث ظهر جيل من القياديين الذين ركزوا اهتمامهم على تحقيق الإصلاح. وما يهم في المرحلة هي أن الكوبيين لم يثوروا ضد كاسترو وظلت هويتهم مرتبطة بحماية وطنهم من العدوان الأمريكي.
ولكن كوبا في حالة تغير كما تقول خاصة أن القادة الجدد الذين ورثوا السلطة يحاولون الإستجابة لمطالب التغيير والسؤال اليوم مرتبط بسرعة التغيير ومداه.
وتقول إن نهاية حكم كاسترو الذي قضى في السلطة خمسة عقود لم يحدث بطريقة صاخبة لكن عبر سلسلة من التحركات البطيئة، فقد هندس كاسترو عملية انتقال السلطة لشقيقه وعدد من الموالين. وفي أثناء هذا لم تحدث تظاهرات ولا موجات من المهاجرين.
وترى الكاتبة أن كاسترو انتصر في النهاية على صناع السياسة الأمريكيين الذين بنوأ سياساتهم على تغيير النظام، وهي سياسة لم تأخذ بعين الاعتبار الواقع في الشارع الكوبي. ولا يخفى أن السياسة الأمريكية تجاه الجزيرة ظلت مرتبطة بقوة الصوت الكوبي في الانتخابات ومصالح رجال الأعمال الكوبيين.
وترى الكاتبة أن الوقت قد حان لوضع السياسة التقليدية تجاه كوبا على الرف وفهم الطبيعة التي جعلت من حكم كاسترو وخلفائه دائما وعدم الاستماع لمطالب المنفيين الكوبيين ومحاولة خنق الحكومة الكوبية في مرحلة ما بعد الزعيم.
وتقول إن كوبا تحتفظ بمؤسسات فاعلة. ورغم وجود مستوى من الفساد إلا أن العاملين فيها متعلمون، كما ان الكوبيين يؤمنون بأهمية ورواية الدفاع عن الوطن من القوى التي تحاول التدخل في شؤونه، سواء كانت إسبانية في القرن التاسع عشر أو أمريكية في القرن العشرين. وتحدثت عن أثر التعليم على الكوبيين الذين يتمتعون برأي في السياسة ومصير بلادهم وكل هذا نتاج للمنجز الثوري التعليمي. ففي عام 1979 مثلا بلغ معدل التعليم نسبة 90%.
وتشير الكاتبة إلى أن خسارة كوبا الدعم المالي بقية 4 مليارات دولار الذي كان الإتحاد السوفييتي يقدمه سنوياً أثر على أهميتها الإستراتيجية والحماية الدولية لها إلا أن خروج السوفييت ساعد حكومة كاسترو على استعادة المبادرة.
وأسهم استثمار كوبا في الرأسمال البشري بقدرتها على الإستفادة من الإقتصاد العالمي. وفي الحقيقة تعاني الجزيرة من فائض في المواهب والمتعلمين، وانضم أكثر من 10.000 طالب تخرجوا من الجامعة التكنولوجية إلى مبادرات تجارية مشتركة في مجال الصناعة الدوائية مع الصين وماليزيا.
وتعتقد الكاتبة إن استمرار الولايات المتحدة بالتهديد للجزيرة فإنها ستبطئ مستويات تحرير الاقتصاد والإصلاح السياسي مما يعني سنوات طويلة من العداء بين الجزيرة وأمريكا.

إبراهيم درويش

القدس العربى

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*