العلاقات المصرية الروسية الحصاد الثقافي لعام 2015 م

  يعود تاريخ العلاقات الثقافية بين مصر و روسيا إلى بداية اعتناق الروس للديانة المسيحية حيث أولى الروس منذ ذلك اهتماما كبيرا بمصر و قيمتها الروحية و التاريخية. وكان الجانب الثقافي دائما مكونا أساسيا في العلاقات بين البلدين حتى وإن شابها فترات من الفتور. ولعل مجموعة المقتنيات والتحف المصرية في متحف الإرميتاج بمدينة سانت بطرسبورج و متحف بوشكين بموسكو و تماثيل أبي الهول على ضفاف نهر النيفا لدليل على التفاعل الثقافي المتبادل بين البلدين. وقد شهد القرن العشرين اهتماما متزايدا من قبل الروس بالتاريخ والثقافة المصرية.

  ويعود الفضل للعالم والأكاديمي الشهير اغناطيوس كراتشكوفسكي في مد جسور التواصل بين الثقافتين. حيث عمل المستشرق الكبير بمكتبات القاهرة والإسكندرية و اختير عضوا بأكاديمية العلوم العربية في عام 1923 م و نشر العديد من المقالات و البحوث في الدوريات العلمية المصرية. كما قام العالم و الأكاديمي الكبير س.أولدينبورج بتقديم مقترح لرئيس أكاديمية العلوم العربية بتبادل الكتب و الإصدارات بين المكتبات الروسية والعربية.

  و بالفعل شهد عام 1925 م تبادلا علميا بين مكتبة القاهرة و مكتبة متحف آسيا في ليننجراد حيث تبادل الطرفان صورا للمخطوطات العربية النادرة. وساهم السوفيت أيضا بتأسيس أول مدرسة لباليه في مصر و كان ذلك في عام 1958 م و تحولت فيما بعد إلى معهد عالي و نالت الفرقة المصرية شهرة واسعة في أوروبا و كانت أول فرقه للباليه في إفريقيا والشرق الأوسط. كما تأسس السيرك المصري بمساعده الخبراء السوفيتي أيضا و كان ذلك في عام 1960 م. ولم تمضي ست سنوات إلا و تم افتتاح أول سيرك في العالم العربي وإفريقيا. كما امتد التعاون إلى الفنون الشعبية وساهم الخبراء السوفيت في دعم تأسيس أول فرقه
للفنون الشعبية ألا و هي الفرقة القومية للفنون الشعبية والتي حققت نجاحات كبيرة في الستينيات و جالت و صالت في كل أنحاء المعمورة

  ولم يكن العام المنصرم 2015 م استثناءا. كان عاما ثريا و حافلا بالأحداث و الفعاليات الثقافية على مستوى العلاقات المصرية الروسية. و دفع ذلك كثير من المهتمين بالعلاقات بين البلدين الى استرجاع ذكريات حقبه الستينيات عندما كانت العلاقات بين مصر و الاتحاد السوفيتي في ذروتها. فعلى المستوى العلمي تم تنظيم أكثر من سيمينار علمي لمدرسي اللغة الروسية بالقاهرة و الإسكندرية حاضر فيهما أساتذه روس و تناولت المحاضرات طرق تدريس مهارات اللغة الروسية للطلاب العرب و شهدت هذه الدورات إقبالا كبيرا من معلمي و أساتذة اللغة الروسية بالجامعات المصرية و على رأسها جامعه عين شمس و كليه الألسن. و ازداد عدد
المنح الدراسية لطلاب الدراسات العليا بالجامعات المصرية الذين يسافرون للحصول على الدكتوراه و كذا دراسات ما بعد الدكتوراه. و في المقابل تعتبر مصر و جامعاتها المختلفة قبلة للطلاب الروس بمعاهد و كليات الاستشراق الراغبين في دراسة اللغة العربية أو رفع مهاراتهم فيها.

  وفي بداية العام شارك وفد روسي كبير في أهم تظاهره ثقافية مصرية ألا وهي معرض القاهرة الدولي للكتاب. والجدير بالذكر أن عام 2015 م شهد عودة نشاط المعرض بعد أربعة سنوات من التجميد. وشارك في الدورة السادسة والاربعين لمعرض الكتاب وفود من 28 دولة و ما يزيد عن 840 دار نشر عربية و عالمية. وضم الوفد الروس عدد كبير من الكتاب والأدباء و المستشرقين الروس. و تم تنظيم ندوة بعنوان ”روسيا و مصر…و ألف عام من الصداقة“ حاضر فيها المستشرق الروسي الكبير فلاديمير بيلياكوف تاريخ العلاقات المصرية الروسية و التى تعود إلى عام 1001 م.

  واحتفالا بذكرى تحويل مجرى نهر النيل و بناء السد العالي أقامت جمعية بناة السد احتفالية بنادي أعضاء هيئة تدريس جامعة عين شمس حضرها نخبة من العلماء وكذا العمل الذين شارك في بناء السد من البلدين و مازالوا على قيد الحياة. و قد حضر الندوة وزير الكهرباء السابق الدكتور على الصعيدي و تحدث عن أهمية الطاقة النووية لتوليد الكهرباء في مصر و تلبية احتياجات برنامج التنمية.و في محافظة السد العالي- اسوان – و مع الاحتفالات بالعيد القومي للمحافظة في الخامس عشر من يناير، جرت الاحتفالية الكبرى بذكرى السد العالي بالاستراحة الكبرى برئاسة الجمهورية، و التي حضرها هذا العام مئات من قدامى العاملين و الفنيين و المهندسين بالسد العالي.

  و شهد شهر سبتمبر تنظيم حفل موسيقي كبير بمسرح الجمهورية بالقاهرة للفرقة الاستعراضية الروسية ”يونست“ من محافظة تول الروسية. و تلاه حفل آخر لفرقة الموسيقى الروسية ”خماسي الاربعه“ بمسرح تشايكوفسكي بالمركز الثقافي الروسي. و لا يكاد يمر أسبوع واحد دون فعاليه ثقافية سواء معرض أو عرض موسيقي أو ندوة. و في المقابل ينشط المركز الثقافي المصري في موسكو أيضا في تنظيم الندوات و اللقاءات و الفعاليات المختلفة. وشهد العام المنصرم زخما في تنظيم الصالونات الأدبية والايام الثقافية و الندوات و المعارض. كما كان الإصدار العربي لمجلة ”آسيا و إفريقيا اليوم“ الروسية من الأحداث الثقافية الهامة كونها التجربة الأولى في العالم العربي و نظرا لما تحظى به هذه المجلة في روسيا من مكانه علمية كبيرة حيث تصدر عن أكاديمية العلوم الروسية. و قد تم تنظيم محاضرة تعريفية بالإصدار الجديد بالمركز الثقافي الروسي بالقاهرة و حضر إلقاء مجموعة كبيرة من رجال الدولة و المسئولين و الدبلوماسيين والصحفيين المصريين و العرب و الروس. و تلا ذلك تعاون آخر بين مؤسسة الأهرام المصرية و صحيفة روسيسكايا جازيتا الروسية التي تصدر ملحقا خاصا يصدر شهريا بالأهرام يتناول الشؤون الروسية والحياه في روسيا باللغة العربية.

  وكان ختام العام مميزا بفعالية ثقافية كبيرة ألا وهي المؤتمر الدولي الثاني بعنوان «المستشرقون الروس والثقافة العربية » والذي عقد بالقاهرة برعاية كريمة من معالي وزير الثقافة المصري ونظمته المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم ودار نشر «أنباء روسيا » بالتعاون مع مركز تاريخ مصر المعاصر بدار الكتب والوثائق القومية، و بمشاركه مكثفة من مختلف المؤسسات العلمية و الثقافية في روسيا ومصر وعلى رأسهم المركز القومي للترجمة والمركز الروسي للثقافة والعلوم بالقاهرة، ومعهد الاستشراق بأكاديمية العلوم الروسية ، ومعهد آسيا وإفريقيا بجامعة موسكو وجامعة سانت بطرسبورج الحكومية ، والمركز الثقافي الروسي العربي بسانت بطرسبورج ، ووكالتي الإعلام «روسيا اليوم » و «سبوتنيك »، ومجلة آسيا وإفريقيا اليوم – الطبعة العربية ، ومكتبة سانت بطرسبورج الحكومية . وشهد المؤتمر حضورا كثيفا من العلماء الروس و العرب بلغ 18 مشاركة أجنبية ما يجعله المؤتمر الأكبر في العالم العربي. ويصدر قريبا على هامش المؤتمر كتاب حول شخصيات هامة كانت جسورا للتواصل الثقافي العربي الروسي، كأول محاولة لتعريف القارئ العربي بسيرة هؤلاء العلماء ودورهم في نقل التراث العربي الى الروسية ودراسته. وقد خلص المشاركون إلى عدد من التوصيات المهمة لعل أهمها الدعوة إلى تكريم كبار العلماء من الجانبين والعمل على تعميق الحوار بين الحضارات، وإيلاء الترجمة ومعاهدها والعاملين في مجالها أهمية خاصة ، التنسيق في هذا الصدد بين الجهات والمراكز والمؤسسات المعنية في البلدين وتشجيع البحوث والدراسات والإبداعات التي تهتم بنقل تراث الثقافتين العربية والروسية، وتشجيع القيام بالترجمات وبالأبحاث اللازمة لاستدراك نقص المعلومات في مصادر المعرفة الأساسية حول روسيا والبلدان الناطقة بالروسية وكل التوقعات تشير إلى أن العام الجديد 2016 م سيشهد نفس الزخم و النشاط المتبادل. و هناك رغبة أكيدة وأمل كبير لدى المثقفين في البلدين في الاستفادة من هذه اللحظة التاريخية و دفع العلاقات الثقافية خطوات للأمام.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*