السيد / عبد الحكيم جمال عبد الناصر

ننشر نص حديث السيد المهندس ”عبد الحكيم جمال عبد الناصر“، الذي أدلى به لمجلة ”الحياة الدولية“ الروسية

تنشر اليوم أنباء روسيا نص حديث السيد المهندس ”عبد الحكيم جمال عبد الناصر“، الذي أدلى به لمجلة “الحياة الدولية” الروسية، التي تصدر شهرياً عن وزارة الخارجية الروسية، ويرأس تحريرها السيد وزير الخارجية الروسي ”سيرجي لافروف“.
أدار الحوار مع السيد ”عبد الحكيم جمال عبد الناصر“ الصحفي الروسي الشهير ”سيرجي بيلا توف“، نائب رئيس تحرير المجلة.
سينشر الحديث في عدد المجلة الروسية الذي يصدر في الأول من ديسمبر القادم. ,
ودار الحديث بالشكل التالي:

1) عزيزي ”عبد الحكيم عبد الناصر“، يُصادف هذا العام مرور 100 عام على مولد والدك، الزعيم المصري، الذي يُعد أحد ألمع القادة السياسيين في العالم العربي، هل تذكر كيف كان والدك يتعامل مع الأسرة وظروف بلده، والأنشطة السياسية، وعمله كقائد لمصر؟

ـ رغمًا عن حجم العمل الرهيب الذي كان يقوم به والدي الرئيس ”جمال عبد الناصر“، والمسئوليات الجِسام التي كان يتحملها، فقد كان أباً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى، ورغم قلة الأوقات التي كان يقضيها معنا، بسبب مسؤولياته، كان لديه الملكة التي تجعلك تشعر أنه يمنحك وقته كله، وأنه معك في كل لحظة. لقد كان أحنّ أب رغم الحزم الذى كنا نلمسه في التعامل مع تصرفاتنا، كأطفالٍ وشبابٍ في ذلك الوقت، كان يُعَلِّمنا أننا أسرة مصرية كأي أسرة مصرية أخرى، وأن أية امتيازات موجودة فهو موجودة بحكم منصبه، وأنها مؤقته، وستزول بزوال المنصب، ولذا كان ممنوعٌ منعاً باتاً استخدام أياً من هذه الامتيازات في حياتنا الخاصة.

2) تاريخياً، عندما كان جمال عبد الناصر رئيسًا لمصر بنى علاقات جديدة مع بلدنا. تم بناء السد العالي بأسوان وأنجزت العديد من المشاريع الأخرى التي جعلت الاتحاد السوفيتي يساعد مصر للنهوض بالاقتصاد. حينها قدِّمَ الاتحاد السوفيتي من جانبه مساهمةً كبيرةً لضمان قدرة مصر للدفاع عن أراضيها، وتم كل هذا في خلال السنوات التي كان فيها ”جمال عبد الناصر“ رئيساً لمصر. عَرِفَ المصريون وقدَّروا وقتها تلك الأحداث، ولكن هل لازالوا يتذكرونها بعد مرور 60 عاماً؟ حصل والدك ”جمال عبد الناصر“ على لقب ”بطل الاتحاد السوفياتي“ في ستينيات القرن العشرين. وقد كانت تلك حالة نادرة في تاريخ الاتحاد السوفيتي بأكمله، أن يُمنح هذا الوسام العظيم لقائد دولة أجنبية. كيف تعامل والدك حيال هذا الأمر، وما الذي كان يربطه بالاتحاد السوفيتي وروسيا؟

– أنا كنت صغيراً للغاية أيام حرب السويس، لكنى أتذكر جيداً أيام وضع حجر الأساس لمشروع السد العالي في ٩ يناير ١٩٦٠، رغم أن عمرى لم يكن يتجاوز السنوات الخمس، أتذكر ذلك جيداً، أولا: لأنه جعل الوالد لا يحضر عيد ميلادي الخامس، فأنا ولدت في يوم ٨ يناير، وكنت أعلم أنه ذاهب إلى أسوان للاحتفال بالسد العالي، وكان الجميع في ذلك الوقت يحتفلون بالبدء في ذلك المشروع العظيم ، ولكن ما أذكرة جيداً هو الاحتفال بانتهاء المرحلة الأولى من السد العالي، وتحويل مجرى نهر النيل، فقد أسعدني الحظ بأن أذهب معه للإسكندرية لاستقبال الرئيس ”نيكيتا خروتشوف“، ضيف شرف هذا الاحتفال العظيم ، وقد كان الرئيس ”خروتشوف“ شخصية مميزة، واحتفى بي جداً حين وجدني مع والدى، وتحدَّث معي، مُقترحاً ضرورة التعرف على أحفاده من ابنته السيدة ”رادا نيكيتا“ و”ألكسى“، وقد حدث اللقاء فعلاً، حيث وجَّه والدى الدعوة لهم، برفقة والدتهم، لزيارة مصر.
وفى تلك الرحلة قَـلَّدَ والدى الرئيس ”خروتشوف“ وسام ”قلادة النيل“، وهو أعلى وسام في الجمهورية العربية المتحدة في ذلك الوقت، ثم قام الرئيس ”خروتشوف“ بإهداء الوالد وسام ”بطل الاتحاد السوفيتي”، وعلمت أن والدى تأثر جداً لعلمة أنه كان أول شخص غير سوفيتي يحصل على هذا الوسام.
لكن في ذلك الوقت كنت قد درست وعلمت قصة بناء هذا العمل العظيم، وكيف أن الدول الإمبريالية حاولت استغلال حاجتنا لبناء السد العالي لفرض إرادتها علينا، عن طريق الشروط المجحفة التي صاحبت عملية التمويل، وكيف أنهم سحبوا الموافقة على التمويل بطريقة مهينة للكبرياء المصري مما جعل الرئيس ”جمال عبدالناصر“ يُمارس حقنا في استرداد أموالنا المنهوبة، بتأميم شركة قناة السويس التي هي شركة مصريّة، ولكن الدول الإمبريالية كانت تنهب 97% من عائداتها، ومصر التي بُنيت القناة في أرضها، والتي مات أكثر من مائة وعشرين ألف عامل مصري في حفرها، بدون أي تعويض، تتحصل على 3% من عائداتها فقط! وعايشت كيف تآمرت تلك الدول على مصر؟، وكيف شنّوا حربهم الغادرة عليها؟، فالتف الشعب المصري والشعب العربي حول زعيمه ”جمال عبد الناصر“ رافضا الاستسلام، ومُصمِّماً على القتال حتى النصر، وهنا كان الموقف العظيم للصديق الروسي حين صدر الإنذار السوفيتي إلى الدول المعتديّة، الذى توعدها بأنه سيستهدف عواصمها بالصواريخ إذا لم توقف القتال فوراً، وتنسحب من مصر. وقد كان وخرجت مصر منتصرة، مالكةً لقناة السويس، التي استخدمت دخلها في بناء هذا المشروع العظيم، وعلمت أيضا أن الخبرة السوفيتية في ذلك الوقت هي التي قدّمت لمصر الدعم الفني لبناء السد العالي، وأن مئات المهندسين والفنيين الروس قدموا إلى أسوان، وعاشوا مع المهندسين والعمال المصريين، حتى أعلن الرئيس ”جمال عبد النصر“ الانتهاء من ذلك العمل العظيم في يوليو ١٩٧٠، ولقد كانت روسيا فعلاً نعم الصديق الذى وقف معنا بدون أي شروط أو أي تدخلات، كتلك التي كانت الدول الإمبريالية تريد فرضها علينا.

3) ما هو المستقبل الذي كان يتوقعه أباك للعالم العربي؟ كيف رأى بعينه الخبيرة ذلك الوضع حين كان الكثير من الدول تريد الدخول في تشكيل ”اتحاد العالم العربي“ بينما البعض الآخر من الدول لم ترد ذلك؟ كيف قيَّمَ وجود الجمهورية العربية المتحدة الذي شكلها مع سوريا، ثم انهيارها؟ ألم يحن الوقت للتفكير مرة أخرى في الوحدة العربية، بعد ما رأى الناس في الشرق الأوسط أن “الربيع العربي” هو عملية مُدَمِّرة؟ وبرأيك، كيف يمكن حل مشاكل العالم العربي بمشاركة مصر باعتبارها دولة لها مكانة وتأثير في الشرق الأوسط؟

– إن الوحدة العربية لم تكن مجرد حلم بالنسبة للرئيس ”جمال عبد الناصر“، ولكنه كان يرى فيها حتمية وجود، وأن القومية العربية التي تجمع العالم العربي من المحيط الأطلسي حتى الخليج العربي هي العمود الفقري لتنفيذ هذا الحلم، وأنها الصيغة الوحيدة التي تذوب فيها كل الاختلافات الدينية والمذهبية والعرقية المتواجدة في تلك المنطقة، حيث أن كل الشعوب العربية مؤمنة بأن تلك الحدود السياسية التي أختلقها الاستعمار بناءً على اتفاقية ”سايكس بيكو“، قبل انتهاء الحرب العالمية الأولى، ما هي إلا أداة تفرقة، لتُمَكِّنَ القوى الإمبريالية من احتلال المنطقة والسيطرة على مواردها، ولكن الرئيس عبد الناصر كان يعي أن تلك الخطوة يلزم أن تحدُث على مراحل، سواء اقتصادية أو اجتماعية قبل الوصول إلى المرحلة السياسية، ولكن ما حدث في تجربة الوحدة مع سوريا جاء بالعكس، وذلك نتيجة ضغط جميع القوى السياسية والجيش السوري على ”عبدالناصر“، وتحميله مسؤولية ضياع سوريا وتقسيمها في حال عدم قبوله بقيام وحدة اندماجية بين مصر وسوريا تحت قيادته، حيث أنه الزعامة العربية الوحيدة التي سيُجمع عليها الشعب السوري وكل القوى السياسيّة، وأن تلك الخطوة هي التي ستمنع القوى الخارجيّة الطامعة من تنفيذ مخططاتها ضد سوريا، وبناء على ذلك وافق الرئيس ”عبدالناصر“ على إتمام الوحدة بشرط حل جميع الأحزاب السياسية في سوريا، إسوةً بما حدث في مصر بعد ثورة يوليو ،١٩٥٢ فوافقوا على ذلك، وتم استفتاء الشعب العربي في مصر وسوريا على الوحدة برئاسة الرئيس ”جمال عبدالناصر“، وكانت نتيجة الاستفتاء إجماع لم يسبق لك مثيل على الوحدة وعلى زعامة ”جمال عبدالناصر“ لدولة الوحدة، وذهب ”جمال عبدالناصر“ إلى سوريا، لأول مرة بعد ذلك الإجماع، واستُقبل في سوريا استقبالاً أسطورياً تتحدث عنه سوريا حتى الآن.

تسببت تلك الوحدة في إثارة حفيظة كل النظم الرجعية في العالم العربي والدول الإمبريالية، التي كان تقسيم العالم العربي هو الوسيلة للسيطرة على مقدراته، وبالأخص الكيان الصهيوني الذى زُرِعَ في فلسطين، فاستنفروا كل أعوانهم للتآمر من أجل القضاء على هذه الوحدة، التي رأى فيها كل أعداء الأمة العربية البداية لإقامة وحدة عربية كبرى، تضم كل المنطقة العربية التي تملك كافة مقومات إقامة دولة عظمى في الشرق، وكانت إقامة الوحدة السياسية قبل ترسيخ الوحدة الاقتصادية والاجتماعية هو السبيل لهدم تلك التجربة العظيمة، بعد ثلاث سنوات من إقامتها، ولكن بالرغم من انفصال سوريا عن الوحدة احتفظت مصر باسم الجمهورية العربية المتحدة طوال عهد الرئيس ”جمال عبد الناصر“، إيماناً منه بأن الوحدة العربية هي إرادة كل الشعب العربي، وأن تلك الإرادة ستنتصر على إرادة تلك الأنظمة التي ترى مصالحها في تقسيم الوطن العربي، وما يحدث الآن من حروب وصراعات في العالم العربي، تستغل الاختلافات الدينية والمذهبية والعرقية، أدى إلى عودة نداء القومية العربية التي هي الحل الوحيد للقضاء على تلك الحروب والصراعات.

4) تعمل روسيا ومصر على تطوير العلاقات فيما بينهما في مختلف المجالات. يبدو أنه يجب تطوير تلك العلاقات في مجال الإعلام. فبرأيك ما الذي يمكن فعله لخلق علاقات أكثر فاعلية بين وسائل الإعلام في بلدينا، ليتعرف مواطنونا بشكل أفضل على حياة الروس في مصر وليتعرف المصريون على حياة المصريين في روسيا؟ نهوض العلاقات المصرية الروسية في الوقت الحالي هو سبب سعادة بالغة بالنسبة إلينا. فهل يمكن أن تتفضل وتشير إلى اتجاهات التعاون الأكثر نفعًا بالنسبة لمصر مع روسيا؟ وما مدى احتمالية إنشاء “منطقة صناعية خاصة بروسيا” في مصر، تلك التي بدأ الحديث عنها قبل عدة سنوات؟

– إن تجربة الشعب المصري السابقة مع روسيا حكومة وشعباً خلال خمسينات وستينات القرن الماضي، التي اتسمت بالدعم الروسي بغير حدود في جميع المجالات: زراعية كانت أم صناعية أم عسكرية، والتي كان من أهم نتائجها بناء السد العالي، مشروع القرن، وإقامة قاعدة للصناعات الثقيلة، كمُجَمّع الحديد والصلب ومُجَمّع الألومنيوم، وغيرهما، فضلاً عن الدعم العسكري الهائل، حيث أن انتصار الجيش المصري في حرب ١٩٧٣ كان بالسلاح الروسي، وأن ذلك كله تم على أساس الصداقة والنديّة، دون أي محاولة للاستغلال، أو أي شبهة للتبعية، كما حدث عند التعامل مع الكتلة الغربية بقيادة أمريكا خلال فترة فتور العلاقات المصرية السوفيتية بدءاً من سبعينات القرن الماضي وحتى قيام ثورة يونيو ٢٠١٣، إن الشعب المصري يأمل في عودة الشراكة المصرية الروسية كما كانت في الخمسينات والستينات، بمعطيات القرن الواحد والعشرين، ثقةً منه في أصالة وصدق توجهات روسيا، شعباً وحكومةً في التعامل مع مصر، وبالنسبة للدور الإعلامي فإن قناة روسيا اليوم أصبحت من أكثر الفضائيات مشاهدةً في مصر، فلو تم التركيز على تلك الشراكة المصرية الروسية سيكون له عظيم الأثر، وذلك بالإضافة إلى القنوات المصرية التي تقوم حالياً بهذا العمل.

5) السؤال الأخير وهو سؤال شخصي بعض الشيء، بما إنك شخصية محبوبة ومُرَحَّبٌ بها في روسيا، فماذا تمثل روسيا بالنسبة لك على المستوى الشخصي؟

– من الجانب الشخصي فروسيا تمثل بالنسبة لي الصديق الحق الذى أجده في أوقات الشدّة قبل الأوقات السهلة، الصديق الذى تحكم المبادئ العليا علاقاته معنا حتى لو تعارضت مع المصالح، كما أرى في روسيا القوى التقنيّة العظمى التي تقف حائلاً ومانعاً أمام كل قوى الشر رغم إمكانيتها الجبّارة، وهذا ما أعادني بالذاكرة إلى زيارة ”يورى جاجارين“، أول رائد فضاء على مستوى الإنسانية لمصر عام ،١وقد٩٦٢ استضافة والدى الرئيس ”عبدالناصر“ في منزلنا بالقاهرة، وكيف كنتُ مُنبهراً به، وكنت في قمة سعادتي حين شبك في بدلتي نموذجاً للصاروخ الذى استقله في رحلة الفضاء الأولى في التاريخ. لقد كنا في ذلك والوقت نرى كل عمل سبّاق لرواد الفضاء السوفييت، يسبقون فيه الفريق الآخر هو انتصار لنا. فحقاً إني لا أحس بأي غربة حين أكون في روسيا، فهي بالنسبة لي هي وطني الثاني، والشعب الروسي هو الصديق الحق للشعب المصري.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*