تضارب القرارات في أمر القطن المصري يبرز مشاكل أوسع في رسم السياسات

وقف المزارع محمد خليل وسط شجيرات القطن في حقله فلم يظهر منه سوى نصفه الأعلى والغضب البادي على وجهه. فبعد أن أصدرت وزارة الزراعة المصرية قرارا من شأنه منع تصدير القطن لمساعدة المزارعين المحليين اعترض مجلس الوزراء فجأة على هذه الفكرة وألغاها.

وكان ذلك أحدث حلقة في سلسلة من المؤشرات على التراجع في قرارات السياسات الاقتصادية والتأجيلات في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي.

وقال خليل الذي يستأجر قطعة أرض من الدولة لزراعة القطن عالي الجودة في شبراخيت بدلتا النيل ”لا أصدق ذلك. قبل أسابيع فقط قالوا لنا لا تقلقوا من القطن المستورد.“

ويمثل مثل هذا التضارب في صنع القرار أيضا عرضا من أعراض مشاكل أوسع في رسم السياسات تؤثر على مصر التي تكافح لتنشيط اقتصادها وجذب استثمارات خارجية بعد سنوات من الاضطراب منذ عام 2011.

فرض السيسي بعضا من الاصلاحات القاسية مثل تقليص دعم الوقود الذي يستهلك شريحة ضخمة من ميزانية الدولة وحصل بذلك على ثناء صندوق النقد الدولي. لكنه ركز جانبا كبيرا من سياساته الاقتصادية على مشروعات ضخمة مثل حفر قناة جديدة لتوسيع قناة السويس ومشروع إقامة عاصمة جديدة.

من ناحية أخرى واجهت مبادرات أخرى من الدولة مشاكل. فقد تراجعت الحكومة عن خطط لبدء تحصيل ضريبة على أرباح التعاملات في البورصة في مايو ايار كانت تمثل عنصرا أساسيا في برنامج الاصلاح وذلك بعد أن شكا المتعاملون في البورصة من أن الضريبة ستعرقل الاستثمار.

كما أرجأت الدولة البدء في تطبيق العمل ببطاقات للوقود كان الهدف منها خفض فاتورة الطاقة الحكومية كذلك لم تحدد حتى الآن موعدا لبدء العمل بضريبة القيمة المضافة.

ويمثل القطن المشكلة تمثيلا جيدا. ففي يوليو تموز اتخذت وزارة الزراعة قرارا من شأنه منع استيراد القطن من أجل زيادة الانتاج المحلي. وتزرع مصر أنواعا عالية الجودة من القطن طويل التيلة الذي كان يعرف فيما مضى بالذهب الأبيض لما يدره عليها من دخل لكن الانتاج يتراجع منذ سنوات.

وقالت الوزارة في بيان إن الهدف من قرار وقف الاستيراد ”حماية الإنتاج المحلي من القطن وحل مشاكل تسويقه.. وإعادة تأهيل مصانع الغزل والنسيج لاستيعاب القطن المحلي وتحويله إلى صناعات تغطي الانتاج المحلي.“

وأضافت أنها تحرص على استعادة القطن المصري لمجده السابق على كل المستويات.

وبعد ثمانية أيام ألغى مجلس الوزراء هذا القرار دون أن يذكر سببا باستثناء القول إن ذلك يأتي في إطار تطوير زراعة القطن ودعم مزارعيه.

وألقى هذا التراجع بظلال الشك على التزام الحكومة بتنشيط القطاع الذي كان في وقت من الأوقات أفضل سلع التصدير في مصر ومازال يمثل جانبا كبيرا من القطن الفاخر المستخدم في حياكة الأقمشة الفاخرة في مختلف أنحاء العالم.

وقال وليام جاكسون من كابيتال ايكونوميكس إن سياسة القطن ”تزيد من الإحساس العام بأن عملية رسم السياسات في مصر لا تخضع فيما يبدو لقدر كبير من التحليل قبل التنفيذ.“ وأضاف أن التخبط في رسم السياسات يجعل من الصعب على المستثمرين وضع خطط مستقبلية.

وشكك تاجر يعمل في مجال السلع الأولية في الخطوة التي أخذتها وزارة الزراعة. وقال التاجر ”لا يمكن للوزارة أن تفرض شيئا كهذا من جانب واحد دون أن يكون لديها البيانات التي تظهر أنه سيفيد أكثر مما يضر.“

ولم ترد الوزارة على طلبات للتعليق. غير أن أصحاب مصانع النسيج الذين أزعجهم قرارها شنوا حملة معارضة لقرار حظر الاستيراد الذي من شأنه حرمانهم من إمدادات القطن المستورد الرخيص.

ويوم الاثنين أوضح بيان صدر عن مكتب رئيس الوزراء أن المجلس الاعلى للقطن المؤلف من ممثلين لوزارات وهيئات الصناعة قال إنه سيعمل على تنسيق سياسات القطن آخذا الطلب على القطن في الخارج وفي السوق المحلية في الاعتبار.

غيظ

في شبراخيت الواقعة على مسافة 150 كيلومترا شمالي القاهرة لا يزرع سوى القطن طويلة التيلة من نوع ”جيزة 88“. ويشعر المزارعون من أمثال خليل في تلك المنطقة بأنهم تعرضوا للخيانة بعد ما تلقوه من وعود بأن محاصيلهم ستحل محل الواردات.

وكان هؤلاء المزارعين تلقوا ضربة في يناير كانون الثاني الماضي عندما قالت الحكومة إنها لن تدفع بعد الآن دعما يبلغ 350 جنيها مصريا (45 دولارا) للقنطار (ما يعادل 160 كيلوجراما) من القطن عالي الجودة.

وفي عام 1994 عرض تحرير قطاع القطن المصري المزارعين المصريين لتقلبات الأسعار العالمية وارتفاع أسعار الأسمدة. وانخفضت المساحات المزروعة قطنا انخفاضا شديدا من المستويات المرتفعة التي بلغتها في الستينات عندما كانت مصر تزرع 2.2 مليون فدان قطنا بفضل الأسعار الثابتة التي كانت الدولة تفرضها.

وقبل ربع قرن كانت مصر تنتج 2.4 مليون بالة (وحدة القياس في وزن القطن وتعادل 227 كيلوجراما) من القطن لكن وزارة الزراعة الأمريكية تتوقع أن يبلغ حجم محصول الموسم الحالي 340 ألف بالة فقط.

وتضرر قطاع القطن المصري من جراء منافسة القطن الأمريكي عالي الجودة من نوع بيما له. كما اتجه المزارعون إلى محاصيل ذات عوائد أعلى وتحولت شركات المنسوجات المحلية إلى تصنيع منتجات ذات جودة منخفضة بقطن خام مستورد من الخارج بأسعار رخيصة.

وتساءل المزارع خليل عما سيفعله الان بمحصوله بعد أن زرع مساحة أكبر عقب علمه بأن حظرا سيفرض على الواردات.

وقال جمال صيام أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة القاهرة إن حوالي نصف مليون عامل يعملون في انتاج القطن وتصنيعه. وهذا يجعل هذه الصناعة من أكبر القطاعات المشغلة للأيدي العاملة في مصر التي يقترب عدد سكانها من 90 مليون نسمة وتبلغ معدلات الفقر فيها نحو 40 في المئة.

اختلاط السلالات

ومع ذلك تساءل صيام الذي يملك مزرعة خاصة عن الحكمة وراء فرض حظر على الصادرات. وقال لرويترز ”الفكرة الأصلية في غاية السوء.“

وأضاف أن هذه الخطوة أفزعت شركات تصنيع المنسوجات المحلية لأن المحالج المصرية تستهلك ما يقرب من مثلي ما ينتجه المزارعون المحليون من القطن.

وقال صيام إن أكبر خطر على القطن المحلي هو ضعف انتاجية المزارع المصرية التي لم يعالجها حظر الاستيراد. وأوضح أن نقص الاستثمار الحكومي في الأبحاث الرامية لتحسين محصول القطن أضر أيضا بالانتاجية.

وأدى الإهمال في معالجة المشاكل على مدى عشرات السنين إلى اختلاط السلالات مما خفف من أصالة القطن المصري.

غير أن مسؤولين محليين يشيرون إلى تحسينات تحققت في الآونة الأخيرة.

ففي شبراخيت يقول مسؤولون إنه لا يسمح بزراعة القطن في القرية التي يزرع فيها صنف جيزة 88 أو في المناطق المحيطة بها وذلك من أجل تجنب اختلاط السلالات.

لكن المراقبين يرون الطريق صعبا بسبب انخفاض الأسعار وإلغاء الدعم.

وقال صيام ”يبدو أن الحكومة مستعدة للتخلي عن القطن المصري.“

المصـدر : رويتـرز 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*