الشخصيات غريبة الأطوار في إبداع فاسيلي شوكشين

بقلم أ.د/ دينا محمد عبده

أستاذ الأدب الروسي المساعد– كلية الألسن – جامعة عين شمس

ولد الكاتب السوفيتي فاسيلي شوكشين 25 يوليو 1929م وتوفي 2 أكتوبر عام1974م وكان كاتباً وممثلاً سينيمائيًا ومخرجًا وسيناريست وقد آسر قلوب الشعوب السوفيتية بصدقه وموهبته. وقد استحق لقب شخصية الفن للدولة الروسية الاشتراكية السوفيتية عام 1969م، وفاز بجائزة الدولة في الاتحاد السوفيتي السابق عام 1971م  وفاز بجائزة لينين الكبري عام 1976م بعد وفاته.

 اهتم شوكشين في أعماله بنماذج الأبطال غريبة الأطوار، والتي تختلف عن الأشخاص العاديين في سلوكهم وطبائعهم.

 من الجدير بالذكر أن الأبطال غريبي الأطوار هي نماذج تقليدية ظهرت في الفلكلور الشعبي في القصص والحواديت الروسية، وكانت غالبا ما تتميز بالفكاهة والبساطة والسذاجة والطيبة الزائدة والانتصار للخير في مقابل الشر، ويظهر البطل الفلكولوري ايفان دوراك كنموذج بارز لهذا النوع من الأبطال، كما ظهر هذا النموذج أيضًا في الأدب الروسي القديم وكثيرًا ما كان يحمل صفات كوميدية تبعث علي الضحك والسخرية. وتطور مع تطور العملية الأدبية في العصور المختلفة لتصبح السمة المميزة لهؤلاء الأبطال الجمع ما بين هو فكاهي ومأساوي، ففي القرن التاسع عشر يعتبر الأديب الكبير نيقالاي جوجال واحداً من أبرز الأدباء الذين أولوا اهتمامًا لنموذج الأبطال غريبي الأطوار، فكانت شخصيات أبطاله تجمع ما بين الضحك والسخرية والشفقة والحزن والمأساة، ومن أبرز هؤلاء الأبطال أكاكي أكاكيفتش بطل قصة (المعطف) الذي بدا في أعين المحيطين به تافهًا مضحكًا وساذجًا، ولكنه كان يتفوق عليهم جميعا ببرائته وثراء نفسه وروحه، كما يظهر أيضًا ذلك في شخصية بيسكارييف بطل رواية جوجال (شارع نيفسكي) والتي كانت تظهر غرابته في اصطدام أحلامه بالواقع ، بينما ظهر نموذج البطل غريب الأطوار الذي يحمل صفات المكر والخداع عند جوجال في شخصية خليستكوف بطل مسرحية (المفتش العام) الذي كان لا يهمه في الحياة سوي إشباع حاجاته الأولية من طعام وشراب ومال دون أي طموح أخر، ويتوالي ظهور النماذج السلبية من الأبطال غريبي الأطوار في رواية (الأنفس الميتة) وبطليها مانيلوف وتشيتشكوف.

 يظهر البطل الغريب المضحك في أعمال الكاتب الروسي الشهير فيودر دستايفسكي الذي كان يسير علي نهج جوجال في هذا الصدد في قصة (حلم إنسان مضحك) والذي كان يصف البطل نفسه فيها بالمضحك، وكذلك رواية (الأبله) الذي يظهر فيها البطل كنموذج ايجابي ومثالي ولكن تؤدي به طموحاته إلى نهاية مأساوية. أما أليوشا كارمازوف بطل رواية (الأخوة كارمازوف ) فقد وصفه الكاتب نفسه بالغرابة. ويظهر البطل غريب الأطوار في أعمال الكلاسيكي الكبير ليف تالستوي، فهو بيير بيزوخاف بطل رواية (الحرب والسلام) الذي يحمل صفات الفروسية والمثالية، فمن ناحية يظهر في صورة حكيم مهوس ومن ناحية أخري يظهر في صورة المسيح المستعد للتضحية بنفسه من أجل سيادة العدل والرحمة في الأرض، فيبدو سلوكه ساذجا ومضحا لكل من حوله. أما في ابداع أنطون تشييخف تظهر نماذج الأبطال غريبي الأطوار في قصص (موت موظف) و (السمين والرفيع) و (العقرب) و (أونتير بريشيبيف) و (المهاجم) ، فالأبطال يثيرون الضحك والسخرية لمن حولهم بسبب بساطتهم وساذجتهم وأحيانا حماقتهم.

 تظهر النماذج المختلفة من الأبطال غريبي الأطوار في إبداع الجيل التالي من أدباء القرن العشرين، فهم الصعاليك في أعمال مكسيم جوركي وهم أبطال الأعمال المبكرة في إبداع  ليونيد أندرييف، وهم أيضًا أبطال أعمال يوري بوندرييف (الخندق) و (مقار المثير للشكوك)، والتي يظهرون فيها الغرابة في أفكارههم وسلوكهم وأعمالهم ولكنهم يبدون حالميين ومصلحيين ولكن كثيرا ماتصطدم أحلامهم بالواقع.

تتجلي نماذج الأبطال غريبي الأطوار في العديد من أعمال الكاتب فاسيلي شوكشين، كاتب القرن العشرين، و تحمل الكثير من صفات أبطال سابقيه من الأدباء الكلاسكيين وكذلك المعاصريين له، ولكن مايميز إبداعه هو سعيه الدائم لوضع أبطاله في مواقف مضطربه وغير طبيعية، والتي من خلالها ينسب ذاك البطل أو غيره إلى قائمة الأبطال غريبي الأطوار أو الأبطال العاديين علي أساس سلوكهم وتصرفهم في هذه المواقف. ففي قصة (الأبله) ترتكز الأحداث علي تلك الوقائع التي حدثت للبطل (تشوديك) أثناء زيارته لأخيه الذي لم يقابله منذ 12 عاما في الأورال، وفي أثناء توجهه إلى أحد المحال اكتشف وجود ورقة نقدية من فئة الخمسين روبل، وبفطرته الطيبة وأمانته الشديدة أعلن عن وجود النقود معه وللأسف لم يظهر لها صاحب، فقرر صاحب المحل وضعها في مكان واضح حتي يسأل عليها صاحبها، وبعد خروجه من المحل أكتشف أن جيبه خاويا وأن هذه النقود تخصه ولكنه استحي بشده أن يعود إلى صاحب المحل ليأخذ النقود بالرغم من علمه بالمشاكل الجامة التي ستحدث له مع زوجته بسبب ذلك. وفي أثناء رحلته إلى أخيه ووجوده بالقطار حدثت له العديد من المواقف الغريبة والطريفة والتي حاول أن يتصرف فيها في كل مرة بسجيته وطيبته المعهودة والتي كانت علي الجانب الأخر تلقي السخرية من ركاب القطار. ومع وصوله إلي بيت أخيه بدأ الإصطدام مع زوجة أخيه صوفيا والتي كانت لا تحبه من أول لقاء بينهما ولم ترحب بقدومه، وفي محاوله منه لإرضاء زوجة الأخ قرر أن يقوم بطلاء وتزويق عربة الأطفال التي تخص ابن أخيه وقام كذلك بشراء هدية له، وعلي النقيض أثار ذلك غضب زوجة الأخ التي قامت بطرده من البيت، واضطر في النهاية الي الرحيل.

(تشوديك) – بطل القصة – شخصية بسيطة تتصرف بعفوية شديدة، وقد كانت ردود أفعال كل من حوله تبدو له غريبة وغير طبيعية ، فقد بدا له أنه يتصرف بشكل طبيعي حينما كان يقوم بمساعدة الغير وارضائهم، لكن الناس من حوله لم يعتادوا علي هذه الصراحة والتواضع والعفوية الشديدة، فبدا في أعينهم رجلا شديد الغرابة. وتمتزج الكوميديا بالمأساة في نموذج (تشوديك)، ذلك الشخص الذي كان يشعر دائما بالمسؤلية الذاتية والضمير الحي، فكان في صراع دائم مع المعايير الإجتماعية القائمة والتي تشوه المبادئ الأخلاقية الروحية والإنسانية في الحياة .

وبالإنتقال الي قصة أخري في إبداع الكاتب نجد أن نموذج البطل غريب الأطوار يظهر بوضوح في قصة (المجهر)، حيث يتصرف البطل الساذج الفلاح البسيط الذي يعمل نجارا في إحدي الورش الصغيرة وهو (أندريه إيرين) كعالم، وقد كان يقابل كل مايتعرض له من سب وإهانة بل وضرب من زوجته (زويا) بالصبر وعدم الرد. وذات مرة قرر أن يشتري مجهرا ب20 روبل، وذلك لإكتشاف الميكروبات والجراثيم التي يعتقد أن لولاها لاستطاع الإنسان أن يعيش ضعف عمره ثلاث مرات، وكان يحلم بأن يكتشف طريقة للقضاء عليها وحماية البشرية من خطرها، ولكنه كان يخشي بشدة رد فعل زوجته التي قرر أن يخبرها بأن هذه النقود فقدت منه، ومالبثت أن عرفت الزوجة حتي أحدثت فضيحة كبري له في البيت بعد أن أضاع النقود التي قاموا بإدخرها لشراء معاطف للأطفال، ولم تهدأ حتي أخبرها أنه قرر أن يعمل شهراً اضافياً في الورشة حتي يعوض الخسارة، وبعد فترة من الوقت وبعد أن هدأت الزوجة قرر أن يحضر المجهر الي البيت وأخبرها أنه مكافأة حصل عليها من العمل، وأصبح الأن كل مايشغل اهتمامه في الحياة هو النظر فيه ومحاولة اكتشاف الميكروبات، كما بدأ يدفع ابنه لمشاركته في ذلك العمل، ومنذ ذلك الوقت أصبح أندريه يشعر أنه يشارك في كل ما يحدث في العالم، وأنه قادرا علي الإحساس بكل الاكتشافات والانجازات العلمية وقد تحمل السخرية من القريبين والمحيطين به في سبيل تحقيق هدفه السامي وهو محاوله اكتشاف طريقة للقضاء علي الجراثيم، ومع قدوم زميله في العمل سرجي كوليكاف ذات مرة إلى بيته انتهت كل أحلامه عندما أفشي الزميل السر أمام زوجته، ليعود في اليوم التالي إلي البيت ويجد أن الزوجة قد ذهبت إلى المتجر لتبيع المجهر.

تبدو غرابة هذا البطل في اهتمامه بالجراثيم والأبحاث العلمية، فطبيعيًا ليس من السهل استيعاب هذه الأمور من جانب فلاح عامل بسيط مثل أندريه إيرين، بل تبدو الغرابة في يقينه أن مساعيه وملاحظاته ستمكنه من الانتساب لعالم العلم والاكتشافات. وكان المجهر بالنسبة له حياة جديدة تختلف عن الحياة اليومية الشاقة الرتيبة التي يعيشها، ففيها يجد متعته وهدفه في الحياة، وتنتهي القصة نهاية حزينة بفقدانه المجهر الذي يعني له فقدان الأمل، بل فقدان الشئ الوحيد الذي كان مصدر سعادته في الحياة، ومن هنا يمكن القول أن فاسيلي شوكشين كان مكملا لمسار سابقيه من الأدباء الكلاسكيين في تصويره للأبطال غريبي الأطوار في أعماله، كما يتميز معظم أبطاله التي تنتمي إلى هذا النموذج بالأيجابية والمثالية والصدق والبراءة فهم حالميين يسعون دائما الي تحقيق الخير والسعادة لمن حولهم بل واأحيانا للبشرية جمعاء، وهذا ما يجعلهم يتميزون بالغرابة في أعين من حولهم، ودائما ما يضعهم الكاتب في مواقف حياتية واجتماعية بالغة الصعوبة يتكشف من خلالها أفضل الصفات الأخلاقية والإنسانية لهؤلاء الأبطال، فهم (تشوديك) في قصة (الأبله) و (أندريه ايرين) في قصة (المجهر) وعلي النقيض يظهر الأبطال المعاديين لهم في صور سلبية ، يحملون صفات العنف والشر والقسوة، فهم (صوفيا) في قصة الأبله و (زويا) في قصة (المجهر)، وجمعت قصص شوكشين مابين الهزل والفكاهة والنهاية الحزينة، وقد استخدم بمهارة شديدة العديد من الوسائل الفنية من استعارة وكناية ورمز ووصف خارجي للأشخاص لنقل الصورة الفنية بشكل واضح أمام القارئ، كما يتميز اسلوبه بالبساطة والوضوح وأحيانا اللجوء إلى استخدام اللغة العامية الدارجة التي تعبر عن أبطاله.

 تناول العديد من الأدباء والنقاد إبداع شوكشين وصدرت عنهم العديد من الأراء الخاصة بتقييم الكاتب و أهمية إبداعه في النصف الثاني من القرن العشرين ومنهم ميخائيل شولاخف و فالنتين راسبوتين و سيرجي زاليجين، كما ظهرت قاعدة عريضة من الدراسات النقدية الموجهة لإبداع الكاتب فظهرت العديد من الأبحاث والكتب والمقالات للعديد من الباحثين أمثال سيرجي فدياكين وفالنتين فيربتسكي وايرينا سترليكوفا وفالنتين كورباتوف الذين ابدوا اهتماما ملحوظا للنماذج المختلفة من أبطال شوكشين بشكل عام وأهميتهم في ابداعه،

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*