رقصة البهلوان “قصة قصيرة”

كتب : محمد هشام

رقصة البهلوان “قصة قصيرة”

حدثوني عن تلك المعاني التي ألتقطتموها من خلال رقصته! حدثوني عن الصور التي جاءت علي مخيلتكم! حدثوني عن الأفكار التي اصطدمت برؤوسكم! أرأيتم ماذا أراه؟! أشُك! نعم أشُك في ذلك! كيف رأيتم ما أراه وأنتم جالسون في أماكنكم تتضاحكون حيناً .. وتبدُون تأثُراً في حينٍ آخر. رأيتكم منكسي الرؤوس وأنتم تحُكُون أعينكم بأيديكم تتصنعون دموعاً تارة وهي في الحقيقة عرقاً يتصبب، وتارة أخرى تتهكمون على هذا البهلوان الذي لا يجيد إضحاكم كما كنتم تتوقعون من خلال رقصته!!

رقص البهلوان رقصته الأولي التي أورد فيها كل ما يستطيع من خفةٍ وحذاقة؛ إذ كيف يجذب انتباهكم وكيف يجبركم على التركيز مع حركاته وخفته دون ثقة في مهاراته وفي قدرته في التحول من رقصة إلي أخري دون شعورٍ بالملل ودون ملاحظة هذه الفواصل التي تتخلل تلك الرقصات؟!

يذهب إليه مالك المسرح السيد ن ممسكاً بكأس من مشروب الروم هامساً في أذنه: انتهت الفقرة المعروفة، مهمتك الصعبة كالعادة انطلق يا مهراجا (كان دائم النداء عليه بهذا اللفظ)

بدأ البهلوان مهمته الصعبة؛ فأخذ يدور ويرقص ليستحوذ على أنظار المشاهدين الذين قد فرغوا لتوهم من التفاعُل مع فقرات الغناء والرقص علي إيقاعات الـ Auto Tune  الشعبية المختلطة بموسيقى الجاز .. وقد صرف الجمهور انتباهه عما يفعله البهلوان علي المسرح؛ ولما لا وقد نالوا قسطاً وفيراً من الفودكا الروسية والنبيذ المُعَتَق والمصنوع يدوياً مذ شهور خصيصاً لهم. ففقرة البهلوان فقرةٌ إجبارية في برنامج السهرة لتهُيئ الجمهور للفقرات الأخرى التي ينتظرونها بحرارة.

فقرة البهلوان تُسَلِم الجمهور إلى الفقرات التالية التي يقوم بها نفس الأبطال السابقون الذين كانوا ينسجون الموسيقي والكلمات الشعبية نسجاً على مسامع الجمهور المتعطش للتمايل والرقص والغناء مع الشَراب، ولكن هذه المرة سيقوم هؤلاء الأبطال بتناول بعض المونولوجات الذكية التي تعرِض لأوضاع السياسة والساسة والمجتمع في قالب نقدي ليتم حكاية نوادرهم وفضح أسرارهم الشخصية والتحدث عن مغامراتهم الجنسية!

يعطي أحد الجالسين إشارة للمونولوجيست بالقدوم إلى محله، إنه نائب عُمدة البلدة السيد ش، حيث يجلس واثنين من رفقائه الذي يعمل أحدهم سكرتيرا لمكتبه، والآخر مسؤول في جهاز الأمن الفيدرالي، فقربه إليه وأخذ يتحدث: ألا تعلم أن زوجة الجنرال إياه تخونه مع حارسه الشخصي الجديد، فيتمايل رفقائه بالضحك بصوتٍ واضح ..

 ألا تعلمون أن الكثير من زوار هذه الحفلات من مسؤولي الدولة ونخبتها؟! فيقومون بطرح تلك الفضائح على مسامع مونولوجست الحفل قبل طلوعه للجمهور لينهل ويأخذ منها ما يسد غرور سادته، ويفضح بها خصومهم منغمسين في شهوة ولذة الاستماع إلى فظائع وفضائح الآخرين .. ألم يحدثنا ماركيز عن عمدة البلدة الذي كان يعلق فضائح الناس على أسوار منازلهم ليلا ليفاجئوا بها مع ومضات النهار؟!

في ذات الوقت يستمر البهلوان في معركته ومهمته الصعبة ..

بدأ الناس يلاحظون رقصات البهلوان ومهارته الغير عادية؛ فكثيرٍ منهم يصادف مثل تلك العروض لأول مرة خصوصاً وأن البهلوان لا يظهر إلا مرة أسبوعياً؛ فهو يمل العمل في المكان الواحد يومياً ويذهب لتقديم عروضه كل يومٍ في أماكن مختلفة يتعاقد معها كل أول عام.

بدأ البهلوان في إيصال رسائله للجمهور، وهي اللحظة التي ينتظرها البهلوان دوماً حتى لا ينافق رقصاته ويتحايل علي خفته وحركاته المثيرة كما يفعل في بداية كل عرض لجذب أذهان المشاهدين.

 فتعلو الموسيقي ويُسرِع البهلوان من دورانه ورقصاته .. تراه يهبط أعلي وأسفل .. يتمايل بخفةٍ وبسرعة يُمنةً ويساراً؛ محاولاً اختلاس نظراتٍ عدة من الجمهور الجالس أمامه يحكي ويضحك ويقهقه: فهذا يتبادل القفشات والضحك مع نديمه، وهذا يحاول أن يستعيد وعيه وخليله، وهذا يناقش أسرته في طعامٍ لذيذٍ للعشاء لختام تلك السهرة .. والبهلوان يجتهد ويرقص ولا يكِل ولا يَمِل في الحصول علي قليلٍ من اهتمام أفرادٍ لا يأبهون ولا ينتبهون في هذا العرض إلا إلي كل غريبٍ ومثيرٍ من الحركات دون الاهتمام بموضوع الرقصة وحركات البهلوان التعبيرية ولغة جسده ودون محاولة للبحث عن الرموز التي يرغب البهلوان في أن يصدم بها عقول الجمهور الخَرِبة التي لا تلتقط معاناة الآخرين وسعيهم في رسم السعادة والابتسامة على شفاه الناس! فقد أضنته عجلة العمل التي تتاجر بإيقاعاته ورقصاته دون رعايةٍ لموهبته ولخفته! إنها الجانب المظلم من الحياة عندما توصد أبوابها في وجوه الأفراد عندما يلجؤون إلي المتاجرة بموهبتهم، والمساومة على مهارتهم للحصول علي أعلي سعر للإنفاق على أنفسهم، في سبيل أن تكون حياة الموهبة هي حياة الرفاه، وليس حياة كسب العيش

بدأ الناس يختلسون بعض النظرات إلي مهارة البهلوان في بعض الحركات الاستثنائية، مما أحدث تأثيراً إيجابياً في نفسه، إلا أنهم سرعان ما يعودون مرة أخري إلي سمرهم وضحكاتهم العالية التي تغطي على أصوات الموسيقى التي تُحرِك البهلوان جسداً ونفساً .. فقد ملوا النظر إليه ولم يعودوا يلاحظون أي جديدٍ في حركاته .. ولكنهم بالطبع قومٌ قد ملوا الحياة في هذه الأوقات .. فقد جاؤوا في هذا الوقت ليروا من الحياة جانباً آخراً غير الذي يرونه خارج هذا المسرح الصغير .. إنهم قومٌ بلا شعور وقد جفت أوردة الإنسانية لديهم .. هم لا يستطيعون التقاط المعاني والأفكار خلال الوجوه، ولم يروا معنى في العرض المقتضب على وجه البهلوان المُتعامِد على الحركات الدائرية المُنظمة التي يصنعها خلال رقصاتِه!

يذهب السيد ن وقد ملّ هو الآخر من العرض التكراريّ اليوميّ للمهراجا: الكراسيّ أمامك أريدك أن تلتزم بوقت البرنامج، لا حاجة لنا لأن نختزل ولو دقيقة من وقت البرنامج المعروض مسبقا على السادة، ألا تنسى أن الأحمق “تارين” استرد نقوده وهددنا بغلق الملهى لأننا انتقصنا عشرة دقائق فقط من العرض! الذي يراهم هكذا يظن أنهم يأتون خصيصا من أجل مشاهدة عرضك السخيف، انطلق يا مهراجا!

اجتذب البهلوان كُرسياً قابعاً جانبه، ووقف عليه دون أن يؤثر ذلك في سرعة دورانه، ودون أن يعيق الرداء الطويل الذي يخفيه أحياناً عن الأنظار كلما ازدادت سرعة دورانه .. وهي بالطبع المحاولة الأخيرة التي يعمد إليها ليؤثر في الحُضور ويضع الكرسي جانب الآخر ليصنع مسرحاً جديداً يقف ويدور عليه؛ علهم يرون شيئاً في تلك الحركات التي قد اختلطت بعرقه المتصبب ولكن دون جدوي! المهم أن يكتمل البرنامج.

علهم يلتقطون شيئاً غريباً! علهم يرون معاناته! عليهم يرون مرحلة وجودية لإنسانٍ قد رزح تحت مصاعب الحياة وغاياته الغير واضحه اللهم المادي منها؛ أي ما يسُد جوعه وحاجته منها! لقد ارتفع البهلوان عن الأرض ليرتفع الجمهور معه ويركزون معه وعلي المفاهيم التي رسبها العرق والكَلُ والتَعَب على وجهه، لكن كلٌ ذلك ذهب هباءاً منثوراً. فهؤلاء قومٌ ليس لديهم أدني استعداد لالتقاط المعاني أو مشاركة الآخرين رحلتهم في البحث عن أي شئ!

وانتهت فقرة الرقص .. وخلع البهلوان ردائه، واصطنع ابتسامةً معتادة في وجه الجمهور لينتظر يوماً جديداً فرُبَما يأتيه أحدٌ بالمعني، أو أن يكف عن عرض موهبته المملة للبيع!

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*