الكاتب والروائي الكبير حنا مينا في الذكرى الثانية لوفاته

كتبت: علا شحود* أكاديمية وكاتبة سورية/ موسكو

img_3855-192x300

كنتُ في العشرين من عمري عندما عُرض مسلسل المصابيح الزرق على شاشة التلفزيون السوري ، و كُنت وقتها قد التحقت بالسنة الثانية بكلية الأدب العربيّ بجامعة تشرين في اللاذقية حيث أسكن مع عائلتي .

هناك اعتدت أن أتنفس الصباح بشرهٍ كلّ يوم مع لمعة الشمس الخجولة خلق الأفق ، أغلي البنّ بفرحٍ على شرفة دارنا حيث تطلّ على شاطئ الساحل الجنوبي لمدينتنا ، أراقب البحّارة أصحاب المراكب ، أراقب رحلتهم ألى قلب البحر كلّ صباح ، أسمع لهجتهم المحبّبة لمسمعي حينما يتكلمون بأصواتهم العالية ، أراقب شبكات الصيد التي يحملونها و أدعو لهم برزقٍ وفير من أسماك البحر . كُنت ألملم بعضاً من نفحات الموج أخبؤها في حقيبتي الجامعية و أمضي إلى محاضراتي اليوميّة ، و بحكم شغفي بعالم الأدب الذي أدمنت عليه منذ طفولتي ، اعتدتُ القراءة بحشريّة جمّة ، اعتدت السكن بمكتبة الجامعة ساعات طوال كنتُ نسيتُ نفسها فيها مراراً ليذّكرني بنفسي هاتفٌ من البيت .

كنتُ أغرق هناك تارة بين صفحات حيدر حيدر و الماغوط ، و أمين معلوف ، و جبران خليل جبران ، و كثيراً ما كنتُ أغرق بين أحلامي الممدّدة بين شريط لواء الاسكندرون و بيت جدّي في قرية ( السويدية ) عندما التقطت رواية ( بقايا صور ) ، و أسأل نفسي كلّ مساء ما شكلُ ( السويدية ) في اللواء ، ما طعمُ التفاح هناك ؟ و ماذا حلّ بأشجار الزيتون التي زرعها جدي مع أبيه ؟ و هل قطع الأتراك جذع الشجرة التي كتب جدي وأصدقائه عليها أسماء محبوباتهم ؟

هناك ذهبتُ بأحلامي و سُعدتُ بها ، و عقدت وعداً بيني و بين الأرض لن أخبره لأحد .

شدّني غلافٌ رسمت عليه أبواب البيوت ، لأعرف أنّ كاتب الرواية هذه لم يمكن يملك باباً ، نحن نرسم أحلامنا التي لم تتحقق ، نعوّض عمّا ينقصنا على صفحات الورق ، نرسم باباً لنُشعِر أنفسنا أننا ملكنا البيت و الوطن .

( بقايا صور ) هو اسم الرواية التي أمسكت بها و قرأتُ عليها اسم الكاتب ( حنا مينه ) ابن اللواء الأصليّ والبحّار  الواقعيّ الشجاع ، بقايا صور و هي الجزء الأول من ثلاثية السيرة الذاتية لحنّا ، حيث جعل نفسه الشخصية المحورية في العمل و تحدّث عن حنّا الطفل ، ليتفاجأ القارئ حياة الطفل خالية من حياة الأطفال ، فتكلّم بواقعيّة صادقة حدّ الألم .

فقر و عوز و جوع صبغ حنا بإنسانية فائضة صنعت شخصيته لأربع و تسعين سنة عاشها ، حيث تكلّم فيها عن مكان ولادته في إحدى قرى مدينتي اللاذقية ليفتّح عينيه متجوّلاً على أقدامه الغضّة باحثاً عن مأوى و فتات خبز يملي معدة الطفل الصغيره مع أخواته البنات الثلاث ، متألّماً على أختيه اللتين عملتا خادمتين في المدينة فقال :” العربة ليست وطناً ، و الصفصاف لا ينمو في الصحراء ” .

( بقايا صور ) تعكس حياة الجماعة بلسان الفرد ، و تعكس قساوة الواقع وطعم التهميش و الحرمان و التشرّد و عدم الاستقرار النفسي و الجسدي بمشاعر جيّاشة ممزوجة بالحزن و الأسى حتى شعرتُ أنني كنت معهم مع كلّ ليلة قضوها تحت التينة خائفين ، فتلمّستُ ضعف الحال و قلة الحيلة . ومن بقايا صور عبرتُ إلى ( المستنقع ) و التي كانت الجزء الثانية من الثلاثية ، حيث دارت أحداثها بحيّ من أحياء لواء الاسكندرونة يُدعى ( الصاز ) بالتركية و يعني المستنقع بالعربية ، وكانت تدور أحداثها بعد الحرب العالمية الثانية بعد أن قرر الانتداب الفرنسيّ متواطئاً مع دول أخرى أن يعطي اللواء لتركيا ، فقال حنّا واصفاً هذا في المستنقع :” و هكذا غدا اللواء مسرحاً لصراع سياسي ، و كُتب علينا نحن سكّانه أن نشهد تلك الأيّام العاصفة التي كُنّا نخرج فيها من الصّباح للمساء بمظاهرات تنادي بعروبة اللواء و تندّد بالمؤامرات الخارجيّة “.

عندما قرأتُ( القطاف ) شعرتُ بفرحة حنّا و إخوته عندما طبخة لهم الأم ( المجدّرة ) وهي الأكلة الشعبية الرخيصة مكوناتها برغل و عدس و قليل من الزيت ، فجعتُ معهم عندما جاعوا ، و تعبتُ معهم من قطاف الزيتون ، و أصابتني حمّى جراء ضربة شمس قاسية أثناء العمل معهم في البستان .

كانت مزارع الزيتون هي محور العمل هذه المرة في الجزء الثالث من سيرته الذاتية ، و عند قراءتي القطاف عرفتُ معنى أن تُخلق رجلاً بلا أحلام و آمال ، أن تحفظ أزقّة شوارع المدن الغريبة قبل أن تحفظ زوايا حقل عائلتك ، أنّ تؤمّ أبواب البيوت مستجدياً نوم ليلة تحت السقف لأنك لا تملك بيتاً و تنام مع المئات من المهجرين في السّاحات و الشوارع ، أن تحلم بلقمة الخبز و تنسى أن تحلم بشهادة نجاحك في المدرسة ، و عندما اعتاد حنّا أن يرافق الأفاعي في بستان الزيتون بلا أبه أو خوف كُنتُ أنا معه رُغم وعلي الشديد من ذكر اسمها ، لكنني معه شعرتُ بلا مبالاة كتلك التي شعرها هو تماما .

كانت الرواية ذات الغلاف الأخضر كناية عن لون الزيتون السوري في السّاحل ، علامة حقيقية في مسيرتي الثقافية و العلميّة .

عام ٢٠١٢ و في غمار سباق المسلسلات الرمضانية بينما كنت أغرق بمحاضرات الشعر الأمويّ و النثر الإسلاميّ و تاريخ الأدب العربيّ تحضيراً لامتحانات السنة الثانية من الجامعة ، عندما شدّت مسامعي كلمات أغنية أطربتني حين قال المغنّي ” من شرفة هالدني طلبت ع الحي العتيق ، رفرف زمان الولدني و هالشّال لوّح ع الطريق ” ، ليأخذني فضولي  إلى شاشة التلفاز لقراءة تفاصيلها ، و أُفاجأ بأنّها شارة مسلسل عنوانه ( المصابيح الزرق ) و هو مأخوذ من رواية لمينه بذات الاسم ، كان المسلسل بإخراج سوريّ عظيم تجلّى احساسه الفنيّ بكلّ تفاصيل الكاتب الحقيقي للرواية ، حتّى شعرتُ أثناء مشاهدتي الحلقة الأولى إنّ مينه هو ذاته من أخرج الامل التلفزيونيّ .

أرهقتني تعلّقاً تلك التفاصيل السّاحليّة التي فاضت بها الحلقة الأولى من المسلسل ، و أتعبتني تفاصيل الجوع و العوز التي أصرّ مخرج العمل ( فهد ميري ) على إبرازها بوضوح في كلّ زاوية من زوايا البيت العربيّ القديم الذي تسكنه عدّة عائلات سورية اختلفت بالطباع و المنطق و الدين ، و جمعهم اثنان لا ثالث لهما ( الفقر و حبّ الوطن ) .

و بحبّ شديدٍ و امتنان جليل لمسيرة مينه قررتُ أن أجعل ابن اللواء و البحر نقطة فاصلة بمسيرتي الدراسيّة ، و أذكر بدقّة عندما أحضرت لنا أُستاذة النّقد في جامعتي بموسكو استمارات مطبوعة ، و قالت لنا أملؤوا بياناتكم من أجل تسجيل عناوين أطروحاتكم للماجستير ، و بدون أيّ تردّد او تفكير كتبتُ ( The manifestations of humanism in the works of Hanna Minh and Maxim Gorky ) ، و عندنا رويتُ  ما حدث و ما قررتُ دراسته لإحدى المعارف متخصصي الأدب في موسكو قال لي ساخراً ” ومن سيهتم بحنّا مينه الآن ! اكتبي عن الأدب الروسي و ابتعدي عن حنا مينه ، الكثيرون كتبوا عنه أبحاثاً و دراسات و لم يفهمه أحد منهم ، حنّا صعب كتير ” ، فأجبته في سرّي ” جاهل أنت برتبة دكتور” .

عندما سئل نجيب محفوظ شيخ الرواية العربيّة ، و صاحب ( أولاد حارتنا ) ، من ترشّح من الكتّاب العرب لنيل نوبّل من بعدك ، قال بلا تردّد ” حنا مينه “.

كان الصّراع الطبقي مسرح حنّا مينه في الأدب و كانت الواقعيّة لعبته ، فكتب عن معاناة الناس اليوميّة ، و جسّد مرارة الطفولة في أدبه معتبرتً أوجاعه ملهمةً لرواياته ، جعل البحر بطلاً في أغلب رواياته فتكلّم عنه و وصف حياة البحّارة على المراكب و ما يحيطها من أخطار فكان البحر منبع إلهامه قائلاً “إذا نادوا يا بحر: أجبت أنا. … البحر أنا فيه، ولدت وفيه أرغب أن أموت” .

كيف لا و قد نشر عام ١٩٧٦قصته القصيرة ( على الأكياس ) التي كتبها على الأكياس عندما كان يعمل حمّالاً للأكياس على المراكب و السّفن ، كما كانت أولى رواياته ( المصابيح الزرق ) التي صورت حياة الفقراء أثناء الحرب العالمية الثانية في اللاذقية مهجة البحر الأبيض المتوسط و لؤلؤته ، وجاء اسمها المصابيح الزرق من عادة طلاء المصابيح باللون الأزرق بغية تضليل طيران العدو لتوحي بمنظر المنائر البعيدة محاطة بالضباب ، فلم يقف حنا عند تصوير فكرة ( أثر الحرب في الناس ) ، بل صوّر حياةً كاملةً بكلّ تفاصيلها كانت الحرب جزءاً من يومياتها و ليست كلّها ، فكان التركيز الأكبر في العمل على حياة الشخوص اليوميّة ، ومكافحتهم في سبيل العيش كلّ على طريقته ، فقد تفرّقوا في أساليب الحياة و تجمّعوا على فكرة النضال و المقاومة .

فارس البطل الرئيسي في العمل شاب عشرينيّ ثائر على كافة أنواع الظلم و الاستعمار تتجمّع حوله مجموعة العائلات الفقيرة ، فهناك مريم السوداء و زوجها نايف الفحل ، و أم صقر خادمة البيوت و ابنها العاطل عن العمل و غيرهم و غيرهم .

قال ” او خبروني بكتابة شاهد على قبري لقلتُ لهم اكتبوا ” المراة .. البحر .. و ظمأ لا يرتو ” ، وقال عن فقره ” كنتُ أكيد الكلب لأنّ اه مأوى ” ، فكان حنّا مينه أحد أهم رموز الرواية العربية ، و أهمها على الإطلاق في سورية ، و انتشرت أعماله عالمياً و تُرجم بعضها إلى الروسية و الصينية و عدّة لغات، كما ساهم بتأسيس رابطة الكتّاب السوريين ، و اتّحاد الكتّاب العرب عام ١٩٦٩ ، بعد أن عمل في جريدة الإنشاء الدمشقيّة ثمّ صار رئيس تحريرها ، و كتب القصص القصيرة و المسرحيّات و الروايات التي زادت عن الأربعين ، و تحوّل كثير منها إلى نصوص سينمائية و أعمال تلفزيونيّة من أبرزها الشراع و العاصفة ، الشمس في يوم غائم ، شرف قاطع طريق ، المغامرة الأخيرة ، المرأة ذات الثوب الأسود ، حمامة زرقاء في السحب ، حكاية بحار ، الثلج يأتي من النافذة ، الياطر ، الأبنوسة البيضاء ، الولّاعة ، المغامرة الأخيرة و غيرها …

٢١ أغسطس ١٩١٨ ذاع في دمشق خبر وفاة كاتب الكفاح والفرح الإنسانيين عن ٩٤ عاماً قضاها بين أقلامه و أوراق رواياته و ذكرياته البحريّة ، بعد أن كتب وصيّة منذ ١٠ سنوات بخطّ يده طالب فيها بعدم نشر خبر وفاته عند حصولها ” عندما ألفظ النفس الأخير ، آمل و إشدّد على هذه الكلمة ، ألّا يذاع خبر موتي في أيّة وسيلة إعلاميّة ، فقد كنتُ بسيطاً في حياتي و أرغب أن أكون بسيطاً في مماتي ” .

___________________________________

*الكاتبة والاديبة السورية علا شحود إنضمت للكتاب بدار نشر انباء روسيا حيث تبدأ في نشر قراءات أدبية عربية روسية وعلا شحود تدرس الدكتوراه بموسكو، وحصلت علي الماجستير في الأدب المقارن، وعلا شحود عضو فاعل بالمؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم، وتُعد حالياً لإصدار أول كتبها عن”حنا مينا..،و”مكسيم جوركي” عن المؤسسة المصرية الروسية للثقافة والعلوم”.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*