بوشكين والأثر الشرقي_ الإسلامي

تجلت تأثيرات الثقافة الشرقية الإسلامية لدى الكسندر بوشكين (1799 ـ 1837م)، شاعر روسيا العظيم والذي يحلو للروس تسميته بـ (شمس الشعر الروسي)، تجلت هذه التأثيرات في أدبه وخاصة مجموعته الشعرية (قصائد شرقية)، وذلك من خلال قراءته لترجمة القرآن باللغة الروسية وكان أعد هذه الترجمة الأديب فير يوفكين وصدرت  في أواخر القرن الثامن عشر، وكذلك من خلال معايشته لشعوب القوقاز المسلم طيلة أربع سنوات هي مدة نفيه إلى الجنوب بعد صدور أمر  القيصر  بذلك وبوشكين شاعر وجداني (تنصاع له جميع عناصر الوجود…. بوشكين الثائر وسع كثيراً حدود النشر الروسي والعالمي)(1)، يقول بوشكين عن تأثير العرب المسلمين  في الثقافة الأوروبية (أن العرب في إسبانيا وهبوا للشعراء الأوروبيين  الوجدان والعفوية في الحب)(2). ويقول(هناك أمران أساسيان أثرا تأثيراً حتمياً على روح الحياة في أوروبا وهما غزو العرب  للأندلس والحروب الصليبية)(3)

إن بوشكين نفسه تأثر بالثقافة الإسلامية، وقد ظهر تأثره وإعجابه بالقرآن الكريم بوضوح في القصائد التي اقتبسها من الآيات القرآنية وضمنها مجموعته الشعرية (قصائد شرقية)، وبوشكين بما لـه من مكانة عظيمة لدى الشعب الروسي وتأثيره القوي في الأجيال المتعاقبة، وبما له من مكانة هامة في الأدب العالمي، ساهم في نشر المعاني السامية للمثل الإسلامية والقيم الرفيعة التي تضمنها أدبه وكذلك في تصويره للشرقي المسلم كشخصية إنسانية إيجابية فاعلة في الحياة، يقول بوشكين في إحدى قصائده التي عنوانها (قبسات من القرآن).(4)

أقسم بالشفع والوتر 

أقسم بالسيف والحرب المحقة

أقسم بنجمة الصبح

أقسم بصلاة المساء

نرى هنا أن الاقتباس تم من سورة (الضحى)، فقد اقتبس (عبارة لا أنا لم أهجرك) من الآية الكريمة: (ماودعك ربك وما قلى)، واقتبس العبارات: (الثانية والثالثة والرابعة)، من قولـه تعالى: (ألم يجدك يتيماً فآوى ووجدك ضالاً فهدى)، والعبارتين (الخامسة والسادسة) من قوله تعالى في سورة البلد (وإطعام في يوم ذي مسغبة). يقول بوشكين في المقطع الثالث من نفس القصيدة: (5)

تشجع واهجر الباطل

اتبع بشجاعة طريق الحق

أحب التيامي وقرآني

اقتبست هذه العبارات من سورة (العلق): (أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى)، إلى قوله تعالى: (كلا لا تطعه واسجد واقترب).

أما المقطع التالي:

يا نساء النبي الطاهرات(6)

أنتن عن كل نساء العالم مميزات

فيكاد يكون ترجمة لقوله تعالى في سورة النساء الآية (31): (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء)، وقوله:

في الظل الجميل للسكينة 

عشن بتواضع، فرض عليكن(7)

أيتها العذارى الحجاب

فهو مقتبس من قوله تعالى في سورة النساء أيضاً الآية (32): (وقرن في بيوتكن ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى) وقوله:

احفظن قلوبكن الآمنة(8)

كي لا تلامس وجوهكن

نظرات الأرذال الماكرة

مقتبس من قوله تعالى في سورة الأحزاب الآية (28): (يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيما). وفي المقطع الثاني من قصيدة (قبسات من القرآن)، يقول بوشكين:

وأنتن يا ضيوف محمد

متقاطرين إلى أماسيه

احترسوا أن لا تكدر

بهارج الدنيا نبيى

في الشباب أفكار تقي

هو لا يحب المتبهرجين

ولا كلام المتكبرين والفارغين

شرفوا مأدبته بخضوع 

وبعطف عفيف

جوراه الفتايات

لقد اقتبس هذا المقطع كاملاً من سورة الأحزاب الآية (52): (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين انيه ولكن إذا دعيتم فادخلوا، فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستأنسين لحديث، إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق، وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب، ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن، وماكان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبداً، إن ذلكم كان عند الله عظيما). وفي القصيدة (6) يقول بوشكين:

ليس عبثاً أنكم ظهرتم في الحلم لي

برؤوس حليقة في المعركة

وسيوف مدماة

في الأسمال، على القلاع، على الأسوار(9)

أن هذا المقطع مقتبس من قوله تعالى في سورة الفتح الآية (26): (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون، فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحاً قريبا). أما القصيدة التالية:

انهض أيها الوجل

في كهفك المصباح المقدس

يشتعل في الصباح.

بصلاة قلبية

أبعِدْ أيها النبي

الأفكار الحزينة

والأحلام الخبيثة.

بتواضع حتى الصباح

أقم الصلاة

واتل الكتاب السماوي

حتى الصباح(10)

إن القصيدة السابقة مقتبسة من قوله تعالى في سورة المزمل: (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه أو انقص منه قليلاً، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا).

وهكذا نرى عمق تأثر بوشكين وإعجابه بالقرآن الكريم إلى درجة الاقتباس الكامل لمعاني الآيات الكريمة في بعض مقاطع قصائده. وفي قصيدة (النبي)(11)

يكرر الشاعر كلمة (الصحراء) مقترنة بتراكيب مثل (الظمأ الروحي) و(ارتجاج السماء) و(طيران الملائكة العلوي) مما يوحي لنا بالظمأ الروحي لمجتمع ماقبل الإسلام الذي كان يتيه في ظلام الوثنية، ثم جاء الإسلام ليحدث الهزة الكبرى (ارتجاج السماء) في تاريخ المجتمع العربي هذا الدين الذي كان رسالة سماوية (طيران الملائكة العلوي) وكان جبريل (الملاك) يتلو الوحي على الرسول الكريم.

وأعتقد أن هناك مفارقة واضحة بين موقف بوشكين من القرآن الكريم وإعجابه واقتباسه من آياته وبين موقف مستشرقي أدوار سعيد ومنهم شاتوبريان الذي يقولِ: (لقد كان القرآن “كتاب محمد” وهو لم يحتو على أي مبدأ للحضارة، أي تعليم يسمو بالشخصية)(12) أو قول وليم روبرتسن سميث (أن هذه الديانة قد حملت تحت جناحيها كثيراً من الأفكار البربرية والباطلة التي لابد أن محمداً نفسه أدرك أنها غير ذات قيمة دينية، والتي أدخلها رغم ذلك في نظامه من أجل أن يسهل انتشار معتقداته المذهبية المعدّلة المصلحة)(13).

أما تأثر بوشكين بالحياة الشرقية الإسلامية فقد برز في قصائده التي كتبها عندما كان في القوفاز في فترة نفيه ففي قصيدة (طلسم) المؤرخة عام (1826)، يقول:

هناك حيث البحر دوماً ينطوي

فوق صخور الصحراء

حيث يشع البدر دفئاً(14)

فمن خلال استخدامه للأضداد (البحر، الصحراء)، (صخور الصحراء)، (البدر، الدفء)، كأن بوشكين يطالبنا بفك طلاسم غايتها فيوحي لنا بالماء (البحر) الذي يتراءى (سراباً) في الصحراء والبدر يشع (دفئاً) والمألوف أن (البدر) يوحي (بالبرودة) والشمس هي التي توحي بالدفء. ومن أجواء المسلمين في القوقاز تظهر مفردات مثل (الحريم، الطلسم، الحنان، المنعم) لتعكس الأجواء الأسرية الآمنة التي يعيشها المسلم الشرقي يقول:

في أجمل وقت من عتمة المساء

حيث يمضي المسلم أيامه

في الحريم منعما

هناك سلمتني ساحرة

بحنان طلسما(15)

إن هذه المقاطع تعكس لنا الحالة الكئيبة التي يعانيها الشاعر في منفاه وغربته عن وطنه في الوقت الذي ينعم فيه رب الأسرة المسلم بالدفء في بيته، وطلسم الساحرة الحنون، لم يرتبط بالشعوذة واجتراح المعجزات، فهو لن يدفع المرض ولا الموت، ولن يحمل المنفي إلى الأهل والوطن، ولكنه ذو تأثير معنوي يحمي من ألم جراح الخيانة والهجر.

إن هذه المفردات التي استعملها بوشكين في قصيدته لم تحمل لنا معنى الشرق المسلم الأسطوري، ولا الحريم المشبع بالجنس ونزوات الرجال، ولكنه استعمل هذا للتعبير عن (الحريم) بمعنى (الأسرة) ومنعماً بمعنى (آمناً مطمئناً). نفس المفردات كانت تعبر لدى أغلب المستشرقين الغربيين عن نزوات الشرق المسلم بحريمه (الجنس)، ومنعماً (عابثاً لاهياً)، إن شرق بوشكين المسلم هنا هو شرق القوقاز، وفصيح هذا، وهنا نرى أن الشرق المسلم كان شرقاً قريباً، عايشه الشاعر وأعجب بشخصياته، فعندما يتحدث عن الحريم فهو لا يحمِّل المعاني الايهامات الجنسية، والقمع للمرأة، بحيث لا تعني إلا المتعة فقط. بل هي المرآة الفاعلة في أسرتها شأنها شأن النساء الأخريات، التي تمنح الطمأنينة والحنان إن شرق بوشكين ليس شرقاً متخيلاً وهمياً بل شرق يمور بالحركة ويبدع الشعراء.

أحب القرم أبناءُ سعدي

حيث أبدع هنا يوماً

فصيح الشرق دفاتره

وأدهش بقجه سراي(16)

وفي قصيدة (الفارس الفقير)، نستذكر الحروب الصليبية ونستذكر شخصية (بطرس الناسك) الذي لعب دوراً في تلك الحروب الصليبية الأولى فقام بقيادة الحملة الشعبية إذ أن هذا الناسك كان قد سار إلى الأراضي المقدسة في فلسطين للحج، ولكنه قفل عائداً إلى أوروبا دون أن يتمكن من الوصول إلى بيت المقدس بسبب مضايقات السلاجقة) (17) وهناك روايات تقول بأنه تمكن من الوصول إلى بيت المقدس، وشاهد مضايقات السلاجقة للحجاج الأوروبيين، وعندما عاد إلى بلاده، قام بتضخيم تلك الإساءات التي كانت تلحق بالحجاج وقام بالتحريض لإشعال الحماس الديني في أوروبا لتخليص قبر المسيح ثم قاد الحملة الشعبية الصليبية في إطار الحملة الأولى، وكانت حملته تتكون من المعدمين وأرقاء الأرض، وكان هؤلاء يعتقدون أنه قديس وأن إرادة الله قد حلت فيه. فيقول بوشكين في قصيدة (الفارس الفقير):

عاش في الدنيا فارس فقير

صموت بسيط

مظهره عابس وشاحب

لكنه بروحه شجاع ومخلص

كان قد رأى رؤيا

لا يصدقها العقل

انحفرت في قلبه

بانطباع عميق

ويتابع بوشكين قائلاً:

مسافراً إلى جنيف

على الطريق عند الصليب

رأى العذراء مريم

أم السيد المسيح

من حينها محترقاً بروحه

لم ينظر إلى النساء

وحتى اللحد لم يشأ

أن يكلم واحدة

لا يني أبداً يصلي

للأب والابن وروح القدس

لم يحدث هذا الفارس

كان إنسانا عجيب

هاهم الفرسان

للقاء الأعداء المرتعدين

في سهول فلسطين

اندفعوا داعين السيدة

هتف بانفعال

(يانور السماء، يا روز القديسة).

ولكن حشود المسلمين

جرفته من كل الجوانب(17)

كيف صور بوشكين هذا (الفارس الصليبي)،  لقد انصاع في حربه هذه لدوافع (لا يصدقها العقل)، وكان هذا الفارس (إنساناً عجيبا)، إن العجيب الآن والمدهش، وغير المنطقي، ليس الشرقي المسلم، وإنما هذا الفارس الأوروبي، الذي لم يكن هناك أي مبرر عقلي أو منطقي لقيامه بهذا الغزو، وهذه الحروب التي خاضها مدفوعاً برؤيا خرافية وهمية، وكان يعتقد أنه منتصر لا محالة، مدفوعاً بعقدة تفوقه ووهم انتصاره، لأن هؤلاء المسلمين الشرقيين سوف يرتعدون خوفاً تحت وطأة الغزو الأوروبي الصليبي في سهول فلسطين ولكن الواقع كان شيئاً آخر، فقد صدم هؤلاء الفرسان الصليبيون بمقاومة المدافعين من المسلمين عن المدينة المقدسة في هذه الحروب غير المبررة دينياً، والتي رأى بوشكين، أنها لم تلق استجابة من السماء.

وهكذا يصور بوشكين، انتصار الشرق على الغرب، وهذا مخالف تماماً لكل ما ألفناه عن صورة الشرق والشرقي المسلم في الأدب الأوروبي الغربي، وفي التراث الاستشراقي الأوروبي وهنا يتمايز مرة أخرى الاستعراب الروسي. وهنا نرى كيف تأثر الأدباء الروس بالشرق ولم ينكروه أو يحاولوا ازدراءه وإذا عرفنا مكانة بوشكين لدى الشعب الروسي وتأثيره الفعال والمستمر على الأجيال المتتابعة، أدركنا بعمق كيف تكرست صورة الشرق المسلم في وعي الروس، ومن منطلق التماثل الإنساني وليس التمايز. وفي قصيدة (مسلم فقير): يقول بوشكين:

 

محمد، هذا هو اسمه، يرعى

بجد كل يوم النحل والقطيع

والكرم المنـزلي

لم يعرف ماهو الكسل(18)

إن الشرقي المسلم إنسان إيجابي، مجِّد مفعم بالعمل والحركة وليس الرجل الكسول الخامل المستسلم لرغباته الذي قال عنه سميث (مجهد، الانتقال من مكان إلى مكان بالنسبة إليه إزعاج صرف، وهو لا يشعر بمتعة في بذل الجهد كما نشعر نحن، ويتذمر من الجوع والتعب بكل قواه كما لا نفعل نحن وليس في وسعك أن تقنع الشرقي أبداً أنك حين تترجل عن راحلتك قد تكون لديك رغبة أخرى سوى أن تجلس القرفصاء على بساط فوراً وتستريح تدخن وتشرب)(19).

والشرقي المسلم عند بوشكين، كريم ومحارب شجاع متفاعل مع الحياة ومتطلباتها، فهو لايبخل على ضيوفه ويوفر لهم الإقامة والطعام، وعندما لا يكون في معركة أو عمل فهو ينعم بالهدوء مع أسرته التي يرعاها آمناً مطمئناً. إن قصيدة بوشكين (أسير القوقاز) تعكس هذه المعاني السابقة:

مع عائلته آمناً

في أوقات المطر

يدخل عليه طارق متعب

يجلس على النار من وجل

عندها ينهض رب البيت

ملاطفاً إياه بود وتحية

ويقدم للضيف كأساً شذية

من نبيذ لذيذ

وتحت عباءة لباد ندية، في منزل

مدخن يتذوق المسافر نوماً آمناً

ويغادر في الصباح

المأوى الليلي المضياف(20)

إن الأسير الروسي يتحدث بإعجاب وحب عن هؤلاء الشرقيين المسلمين:

 

لاحظ الأسير بين الجبليين

إيمانهم وعاداتهم وأخلاقهم

أحب بساطة حياتهم

كرمهم وتعطشهم للقتال

سرعة حركتهم الحرة

وخفة أرجلهم وقوة سواعدهم(21) 

هذه هي الصورة التي يبثها الأدباء الروس في الوعي العام الروسي عن الشرقيين المسلمين، وأعتقد أنها مختلفة تماماً عن صورة الشرقي المسلم التي يقدمها المستشرقون الأوروبيون الغربيون (والشرقيون وخصوصاً المسلمين كسالى وحياتهم السياسية نزوية مشبوبة ولا مستقبل لها)(22). يقول شاتوبريان عن المسلمين الشرقيين: (عن الحرية لا يعرفون شيئاً، من الاحتشام ليس لديهم شيء، القوة: هي ربهم).(23)

لقد ارتبطت صورة الشرقي المسلم في الآداب الغربية بشخصية الشاذ والمنحرف والكسول الهروب الماكر الذي لايني يخدعك ويفتك بك عند اللزوم. هذه الشخصية هي التي يجب أن ينوب الغرب الأوروبي عنها في اتخاذ قراراتها وتحديد مصيرها ورسم مستقبلها.

إننا عند بوشكين نرى صورة مختلفة، فالشرقي المسلم إنسان إيجابي، حركته دائمة، لا يعرف الكسل، يحلُّ به ضيفه مساءً، فيلقى الحفاوة والترحيب، فينام مطمئناً آمناً ويغادر صباحاً متابعاً طريقه. وعندما ينظر بوشكين إلى العادات والتقاليد المختلفة لا ينكرها، فلا يصورها بالعجائبية والشاذة وإنما يحترمها، لأن الاختلاف هنا ناجم عن اختلاف الشعوب، إنه الاختلاف والتمايز المباح والأساسي في الحياة الإنسانية، الذي يفرض احترام كل شعب لعادات وتقاليد الشعوب الأخرى بغض النظر عن اللون والديانة والانتماء. إن الشرقي المسلم في قصائد بوشكين لم يمارس الطغيان تجاه الآخر حتى وإن كان هذا الآخر سبية من سبايا الخان التترية فنرى أنه ترك لها حرية العقيدة، في نفس الوقت الذي اعتنقت الإسلام سبية أخرى، ولكن ليس بدافع القسر وإنما بدافع الحب. يقول بوشكين على لسان (زريمة) الجورجية الحسناء في قصيدة (الأغنية التترية).

 

لم أولد هنا، بل بعيدا

بعيدا، ولكن الأيام الغابرة

حاضرة بعمق أشياؤها

في مخيلتي حتى الآن

أذكر الجبال في السماوات

السيوف العنيفة في الجبال

غابات البلوط الكثيفة

قانون آخر عادات أخرى …

أقسمي … (ولو أنني لأجل القرآن)

بين سبيات الخان

نسيت عقيدتي القديمة

ولكن عقيدة أمي كانت عقيدتك(24)

فهذه امرأة تركت عقيدتها القديمة (المسيحية) لأجل القرآن، دون إكراه وهذه ماريا السبية الأخرى بقيت على عقيدتها، بل وتمارس شعائرها دون خوف، أبقت على صليبها ومارست صلاتها في وحدتها:

قناديل النور الموحش

تومئ، حزيناً يبدو

وجه الفتاة الوديعة الطاهر

والصليب عنوان الحب المقدس(25)

وفي قصيدة أخرى يقول بوشكين:

 

بدا لي أنها وصية القدر

تحدثت بكلام صريح

أين اختفى الخانات؟ أين الحريم

الكل هادئ، الكل كئيب

الكل تغير

ويبتهج نظري النهم

ثانية أمواج القرم

بلد ساحر! متعة العين!

كل شيء حي هناك(26)

إن الشعوب عند بوشكين تتغير وتتقدم، تتحرك إلى الأمام، فالتقدم خصيصة من خصائص الإنسانية. فلا يثبت بوشكين الشرقي المسلم عند لحظة تاريخية معينة، فهو لا يتحدث عن شرق سكوني، بل عن شرق حيوي حيث قانون التطور والتغير يحكم جميع الشعوب، وهذا ما لم يقله المستشرق الغربي عن الشرق المسلم.

إن بوشكين بعد أن عايش الشرق المسلم من خلال القوقاز، يرى أن شرق الخانات والحريم والقصور قد تغير، لأن الشعوب تعيش متغيراتها وفق الأزمنة المختلفة. وينهي بوشكين القصيدة بإمكانية التعايش بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي، وليست إمكانية السيطرة والهيمنة هي التي تحكم تفكير الأديب الروسي، بل إن الشعوب على اختلافها يمكن تتلاقى يقول:

ولذكرى ماريا البائسة

أمام نافورة مرمرية

في زاوية القصر المنعزل

وفوقها صليب يظلل

الهلال المحمدي(27)

هذه هي رؤية أعظم شاعر روسي للشرق المسلم، وهذه رؤيته للإسلام وللقرآن، هذه هي الصور عن الشرق الإسلامي التي كرسها من خلال شعره في وجدان الروسي المثقف، والمواطن العادي، وأورثها للأجيال المتعاقبة.

وبعد الحديث عن نموذج من الأدباء الروس في القرن التاسع عشر نرى كيف أن موقف الاستعراب الروسي الكلاسيكي من الشرق المسلم.

 

(1) جريدة البيان ـ فر الوفا ـ 2 أكتوبر 1989

(2) فر الوفا 131 ـ المؤلفات الكاملة لبوشكين ـ مجلد 11 ص 36 طبعة

(3) فر الوفا

(4)ص 20 ـ قصائد شرقية

(5)ص 28 قصائد شرقية

(6) ص 28 نفس المصدر

(7) ص 28 نفس المصدر

(8) ص 29 قصائد شرقية

(9) ص 33 المصدر السابق

(10) ص 35 قصائد شعرية

(11) أوردها أدوار سعيد في ص 186 من كتاب الاستشراق

(12) أوردها سعيد في ص 243

(13) ص 47 قصائد شرقية

(14) ص 47 المصدر السابق

(15) المصدر قصائد شرقية. ص154

(16) العرب والروم واللاتين في الحروب الصليبية ص 154

(17) ص 69 قصائد شرقية

(18) قصائد شرقية ص81

(19) أوردها سعيد في ص 244 الاستشراق لـ وليم روبرتس سميث

(20) ص 109 قصائد شرقية

(21) ص 104 نفس المصدر

(22) ص 192 أوردها سعيد الاستشراق

(23) ص 187 الاستشراق

(24) ص 178.175 قصائد شرقية

(25) نفس المصدر

(26) ص 187.185 قصائد شرقة

(27)ص 183 قصائد شرقية

 

 

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*