الشيخ محمد عياد الطنطاوي (1810-1861)

Conference-2

  فأول عمل له كان إلقاء المحاضرات للمتدربين الذين سيتخرجون قناصلة ومترجمين ميدانيين في بلدان المشرق. وقد ورد في سيرته الذاتية بأن مستشار الدولة الشيخ الطنطاوي قام بتدريس اللغة العربية وقواعدها ودرب طلبته على الترجمة من الروسية إلى العربية والمحادثة والخط العربي وقراءة المخطوطات القديمة.

  ويمكننا فقط أن نتخيل حجم الأعباء التدريسية والوظيفية التي كانت على عاتق الشيخ العالم. فكونه عربي وعالم إسلامي مكنه من التفنن في التدريس وجذب الطلبة وترغيبهم باللغة العربية وآدابها وبكنوز الثقافة الإسلامية. فكان المستمعون لمحاضراته يتمتعون بما يقدمه لهم من “قواعد اللغة العربية الجميلة” و يستشهد بمقتطفات من أمهات الكتب العربية والإسلامية مثل : كتب الزمخشري و”ألفية“ ابن مالك و مؤلفات ابن هشام مثل ”قطرالندى“ وغيرها.

  كما تخللت محاضراته في القواعد ترجمات لمقاطع من اهم المؤلفات التاريخية لابن خلدون ومقامات الحريري والأمثال وعبارات التحية باللهجة المصرية. وكان على طلبته أن يقرأوا وثائق دبلوماسية أصلية ومعلقات الشعر الجاهلي لامرؤ القيس ومؤلفات الصوفيين وأشعار أبي العلاء.

  وبالرغم من كثرة الواجبات الدراسية وصعوبتها فإن الشيخ الطنطاوي تميز بأسلوبه الشيق والجذاب وخاصة عندما يتحدث باللهجة المصرية، وشكل ذلك قاعدة لتأسيس معرفة عميقة عن ثقافة العرب وتاريخهم ودينهم الإسلامي. وما زالت الذكريتالطيبة عن مرحلة تدريس الشيخ – البروفيسور مسطرة بحروف من ذهب في تاريخ الاستعراب الروسي.
وتفيد مذكراته وأوراقه المحفوظة والتي يزيد حجمها عن خمسمائة صفحة، بأنه كان يولي أهمية خاصة لمحاضراته والتي تظهر فيها الكتابات باللغة الروسية إلى جانب العربية لكي يقرب تلك الأفكار والمعارف إلى أذهان طلبته الروس. وقد قسمت محاضراته إلى تسعة وعشرين جزءاً بعدد المحاضرات وكلها مكرسة للقواعد وطريقة تدريسها للروس فأصبحت مرجعاً تعليمياً لا غنى عنه للمهتمين وخاصة المترجمين منهم على مدى مئات السنين.

  ومعظم الدارسين كانوا من أبناء القوقاز الذين ينتمون لعائلات راقية وكانوا يعرفون لغتهم الأم واللغة العربية فقط. وتعلموا على يد الشيخ مبادئ قواعد اللغة العربية والنحو والصرف والبلاغة وغيرها. وتقديراً لجهوده التدريسية في تعليم القوقازيين حصل الشيخ الطنطاوي عام 1850 على أعلى تقدير ”المكرمة العليا“.
ومن ضمن واجبات الشيخ بالاضافة إلى التدريس وغيره كان الإشراف على خزينة مكتبة القسم التعليمي. فكان يقوم بتصنيف الكتب والأوراق والوثائق والمخطوطات لكي توضع في خدمة الدائرة الآسيوية. وكان ذلك جهداً مضنياً بالرغم من الاعتقاد بسهولته. وخير مثال على ذلك كما يذكر كراتشكوفسكي كان عمل الشيخ على إعادة نسخ مخطوطتين يعودان إلى القرون الغابرة وهما مخطوطة مكرسة لتاريخ حكم خوارزم شاه جمال الدين وتعود للقرن السابع الميلادي والتي كتبها سكرتيره النسوي. بينما كانت المخطوطة الثانية التي نسخها الطنطاوي لكي توضع في خدمة الطلبة فمكرسة للأمور الحربية وتعود لمحمد النصيري من القرن الرابع عشر. وعمل لمدة سنتين كاملتين على نسخهما والتعليق عليهما وأنجز هذا العمل في 1843.

  ولا يفوتنا أن نذكر بأن الطنطاوي الذي قضى إجازته الوحيدة في مصر كرس معظم وقته للبحث عن المخطوطات فجلب معه العديد منها في التاريخ والأدب والشعر.
وكان مكتب الشيخ المصري في المكتبة في شارع بولشايا مورسكايا، حيث يقع مبنى وزارة الخارجية، وهناك مارس نشاطه العلمي والعملي. فتحت إشرافه كانت تدقق التوجيهات والتعليمات الصادرة إلى القناصلة الروس والرحالة. والدليل هو ما كتبه المستعرب الكبير الأكاديمي خ.د. فرين الذي أراد إعادة نشر مرجع قديم فاعتمد إلى حد كبير على مساهمات الشيخ الطنطاوي. وقد نشر المرجع الجديد حينها أي في عام 1845 تحت عنوان ”بعض الإرشادات المأخوذة في معظمها من المؤلفات التاريخية والجغرافية للعرب والفرس والترك لموظفينا في آسيا“. وعبر فرين عن شكره العميق وتقديره العالي للتدقيقات والتصحيحات التي أجراها الطنطاوي في ذلك المرجع.

  ولطالما كلف الشيخ الطنطاوي مستشار الدولة في الدائرة الآسيوية بأعمال أخرى خاصة بالقيصر وعائلته. وأحدها كان متعلقاً بتصميم وتزيين الغرفة التركية في القصر الريفي للقيصر. فاستخدم الطنطاوي مخطوطات عربية قديمة وبعضها هدية من مكتبته الخاصة قدمها هدية للقيصر، بالاضافة إلى مؤلفاته الخاصة المكتوبة بخط عربي جميل. وكذلك أشرف على تجهيز المكتب الشرقي للأمير ابن القيصر مستخدماً التحف والمخطوطات والزخرفة العربية المتألقة. وبنتيجة ذلك العمل المتميز الذي حاز على إعجاب ولي العهد كُرُِّمَ الشيخ ”بمنحة مالية لائقة من قبل الأمير شخصياً وكذلك منحه خاتماً من الماس“.
وارتبطت التكليفات الأخرى للشيخ بتأليف الأناشيد والمرثيات لقراءتها في المناسبات الرسمية من حياة البلاط.

  وجلب له العام 1840 الشهرة بصفته شاعر البلاط القيصرين حيث نظم قصيدة مكونة من خمسة وعشرين بيتاً على وزن بحر الوفير بمناسبة قدوم الأمير ألكسندر نيكولاييفيتش مع خطيبته الأميرة المعظمة ماريا إلى سان بطرسبورغ وزواجه منها. فأعجبت الأمير ابن الامبراطور تلك القصيدة التي زينت فيما بعد بها جدران المكتب التركي في القرية القيصرية.
وفي عام 1843 كتب الطنطاوي قصيدة بمناسبة ولادة ابن لألكسندر نيكولايفيتش. وبعد أثني عشرة سنة بمناسبة تتويجه امبراطوراً في روسيا كتب الشيخ قصيدة مؤلفة من 29 بيتاً على وزن بحر البسيط وبلغة عربية قديمة، واختتم القصيدة بعبارات توضيحية باللغة الروسية أشار فيها بأن القيمة العددية للحروف العربية للشطر تعبر عن العدد 1855 وهو عام تولي ألكسندر العرش في روسيا.
  وقد كنب الطنطاوي ثلاث قصائد بصفته مشرف على الاحتفالات الامبراطورية مكرسة للقيصر نيكولاي الأول. ومنها: نشيد بمناسبة مرور خمس وعشرين سنة على تتويجه قيصراً لروسيا والقصيدة مكونة من ستة وثلاثين بيتاً على وزن بحر الطويل، وقصيدة على شرف القيصر نيكولاي الأول مؤلفة من أربعة عشر بيتاً على وزن بحر الكامل، ومرثية حزينة بمناسبة وفاة القيصر نيكولاي الأول عام 1855 وهي مكونة من خمسة وعشرين بيتاً في بحر البسيط.

  وكتب قصيدتين واحدة مكرسة لمديح اللورد النبيل المعتمد لدى البلاط الروسي والذي أعجب به الامبراطور نيكولاي الأول وهو الدوق مكسيميليان ليختينبيرغ الذي وصل من مصر إلى سان بطرسبورغ وهي مكونة من بيتين في بحر الخفيف. والقصيدة الثانية كتبها بمناسبة وصول ملك فورتينبرغ الذي كان محط إعجاب الامبراطور الروسي واصفاً إياه ببعد النظر وتميزه بين حكام ألمانيا والقصيدة مؤلفة من تسعة عشر بيتاً على وزن الطويل.
وكانت تلك الإهداءات الشعرية القيمة من ضمن الواجبات الحكومية للشيخ الطنطاوي. لأن وزير الخارجية آنذاك كان يكلفه بنظم القصائد ليهديها بمناسبات رسمية مختلفة تخص العائلة القيصرية. كما أن تلك الإهداءات الأدبية المتميزة كانت تحظى بالشكر والامتنان من قبل البلاط القيصري إما شفهياً أو كتابياً وتقترن بالهدايا الثمينة والجوائز. ويذكر أن القصيدة المكتوبة على طريقة الشعر العربي القديم والتي أهداها لملك فورتينبرغ الألماني دفعته لمنح الشيخ عام 1852 ميدالية ملكية يتمتع حاملها باعتبار رفيع في المجتمع.
وكانت الأمور المتعلقة بالشرق تترك بصماتها على محتويات الوثائق المعدة في الدائرة الآسيوية. وكان الطنطاوي هو من يقوم بمراسلة القناصلة الروس في الخارج ويعد لهم اقتباسات من الأرشيف ويترجم الرسائل والمذكرات والمراسلات والأوراق الرسمية الموجهة إلى ملوك المشرق والردود المرسلة إلى وزارة الخارجية الروسية. وكانت تلك الوثائق تخضع لإشراف شخصي من الوزير ويكتب عليها عادة ”أمور استثنائية وعاجلة جداً“.
وتشهد السجلات والوثائق الرسمية الموجودة في أرشيف الدائرة الآسيوية في أربعينيات وخمسينيات القرن التاسع عشر، وهي فترة وصول الشيخ الطنطاوي، على أن مواضيع العلاقات الروسية التركية والروسية المصرية كانت طاغية في مجال الاهتمام السياسي.
في تلك الفترة وضعت وزارة الخارجية التي يرأسها الكونت نيسيلرود، بناء على توجيه من الامبراطور نيكولاي الأول، هدفاً محدداً وهو منع إرساء سفن السلطان التركي الذي كان في حالة حرب منذ 1839 مع محمد علي باشا في مصر، في الموانئ الكبرى. لأن إمبراطور روسيا كان قلقاً من الانتصارات العسكرية للباشا المصري، وخاصة في حال توليه العرش بدلاً من السلطان عبد المجيد، حيث سيكون قادراً حينها على بث روح جديدة في جسم الامبراطورية العثمانية التي أنهكتها الاضطرابات والمشاكل الداخلية المستمرة.

اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*